الخميس، 30 أغسطس 2018

حوار مع الجاحظ


حوار مع الجاحظ


لو يمسخ الخنزير ثانيا 
 ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بنفسه 
وهو القذى في كل طرف لاحظ
انطبقت صورة هذا الشعر على محاوري الذي كان جاحظ العينين بارزهما 

مشوه الوجه ، يميل وجه إلى السواد .
ورغم هذا فقد أعجب به عظماء عصرة وأجلوه رغم قبحه حتى قال أحد الشعراء في رثاءه :
ولقد رأيت الظرف دهـ 
 ـراً ما حواه اللافظ
حتى أقـــــام طريقه 
 عمرو بن بحر الجاحظ
ثم انقضى أمد به 
 وهو الرئيس الفائظ
سلمت على شيخنا وشيخ الأدب العربي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
وأعلنت فخري واعتزازي قبطتي لمحاورة هذا العلم الشامخ في تاريخ الأدب العرب والعالمي ، فشكرني على هذا الحوار :
أنا : بداية الأمر .. أحببنا شيخنا الفاضل أن تعرفنا بنفسك اختصارا ؟!
أبو عثمان الجاحظ : حسنا .. أنا أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الكناني الليثي ، وعرفت اختصار بذلك الاسم الشهير الجاحظ .
كبير أئمة الأدب ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ([1]) .
أنا : حسنا .. شيخنا الفاضل .. أحببنا أن نتباحث قضية أثارت جدل في نسبك فقد قيل أنك مولى وقيل أنك عربي الأصل ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد قيل أن جدي فزارة كان مولى لأبي القلمس عمرو بن قلع بن عباد بن القلمس الكناني الفقمي .
و أن جدي فزارة كان أسود اللون وكان جمالا لعمرو بن قلع هذا ، أي أن أصولي ترجع إلى الجنس الإفريقي الذي اختلط بالعرب بعد الإسلام  ([2]).
أنا : إلا أن البعض يدعي أنك من أصل عربي ويدعي أن الرواية التي تذكر أنك ذو أصل أفريقي مختلقة ومنحولة إذ لم ترد من مصدر موثوق به ، كما أنه لم يعيرك أحد من الشعراء بالرق ولا بإنك مولى لأحد .
كما أنك في الكثير من كتبك ورسائلك صرحت بإنك من العرب ([3]) ؟!
قال عمرو مفاخراً = نحن قوم من العرب
قلت في طاعة لربـ = ـك أبليت ذا السب ([4])  .
ورغم هذا فقد ألفت أيضا رسالة في مدح السود ( فخر السودان على البيضان ) وقد تدل هذه الرسالة على أنك ليس بالعربي ؟!
الجاحظ : وألفت رسالة في مناقب الترك ، فهل تعني هذه أني تركي !!
 أنا : حسنا .. حسنا .. أحبنا أن تخبرنا عن سنة مولدك ؟!
الجاحظ : حسنا .. ولدت بالبصرة سنة 150 هـ ، فقد ولدت قبل أبي نواس بسنة ، ولدت في أول سنة خمسين ومائة وولد أبو نواس في آخرها ([5])  . ( وهز الجاحظ رأسه مبتسما ) وأكملت أنا حديثي :
أنا : بل وما يدل على أنك عربي قول الجماز فيك :
أنا : ويقال أنك ولدت سنة 163 هـ ([6]) ويقال أيضاً أنك ولدت سنة 159 هـ ([7]) وهو ما يأخذ به الكتاب المعاصرون وربما لقصة تروى عند مرضك عندما أصابك الفالج ( الشلل ) عندما وصفت حالك في تلك الفترة وقلت ( وأشد ما علي ست وتسعون سنة ) ([8])فجزموا أن هذه القصة حدثت في أخر سنة من حياتك أي سنة 255 هـ .
الجاحظ : لقد قلت لك من قبل أني ولدت سنة 150 هـ .. لا أدري لما لست مقتنع بأني ولدت في تلك السنة ... لربما لا تصدق أني قد بلغت من العمر 105 سنة !!
أنا : حسنا .. ليس يهمنا أن كنت قد بلغت كل هذا العمر أو أقل .. أحببنا أن تحدثنا عن نشأتك ؟!
الجاحظ : ولدت في البصرة كما قلت عن أبوين فقيرين .. وسريعا ما توفي والدي وأنا صغير .. وربتني والدتي بعد ذلك .. ودخلت في صباي الكتاب لأتعلم القراءة والكتابة وأخذت أتردد على حلقات العلم في مسجد البصرة الجامع وأذهب إلى المربد للعلم وتلقف الفصاحة .. كما كنت أبيع الخبز والسمك عند نهر سيحان بالبصرة ([9]) .
أنا : وقد كانت والدتك تغضب من انصرافك للعلم ، وتركك العمل ؟! الجاحظ : نعم .. إلى درجة أنها قدمت إلي الكراريس عندما طلبت منها الطعام ، فقلت : ما هذا ، فقالت : هذا الذي تجيء به .
فخرجت مغموما وجلست في جامع البصرة فرآني يونس بن عمران ([10]) مغموما فسألني ما شأني فأخبرته بخبري فأعطاني خمسين دينار وعدت إلى والدتي التي عجبت من هذا وسألتني من أين لك هذا ، قلت : من الكراريس التي قدمتها لك ([11]).أنا : حسنا .. أحببنا أن تخبرنا عن الأدباء والعلماء الذين أخذت منهم العلم ؟!
الجاحظ : نعم .. أخذت العلم من القاضي أبي يوسف والسري بن عبدويه والحجاج بن محمد وحماد بن سلمة البري وصالح بن جناح اللخمي ويزيد بن هارون وعبد الله بن عون وشعبة بن الحجاج وحماد ابن زيد بن درهم الأزدي ، وسيبويه وعمرو بن كركرة والنضر بن شميل وقطرب والأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى والأخفش الأوسط وأبي اسحاق النظام وثمامة بن أشرس .. وكان هذين الأخيرين هم أحد أهم أساتذتي وشيوخي ([12]) .
كما أخذت عن الأعراب الفصحاء كأبي المهدي وأبي خيرة ويزيد بن كثوة وأبي الربيع الغنوي وأبي المنتجع بن بنهان وعبيد الكلابي وغيرهم ([13]).
أنا : وقد عرفت في شبابك وحياتك بإقبالك على الكتب حتى كنت تبيت في دكاكين الوراقين للقراءة والنظر ، وشهد أحد أصدقائك بحبك للكتب ؟!
الجاحظ : نعم .. حتى سخر مني أصدقاء لي عندما رأوني أشتري أوراق مقطعة فقلت لهم : ( أنتم حمقى والله أن فيها ما لا يوجد إلا فيها ولكنكم جهال ، لا تعرفون النفيس من الخسيس ) ([14]) .
فقد كنت والله مولعا بالقراءة حتى أنه لم يقع بيدي كتاب إلى استوفيته بالقراءة كائنا من كان ([15]) .
أنا : وكان أكثر من أثر فيك شيوخ المعتزلة ؟!
الجاحظ : نعم فقد شغفت بالاعتزال وقد لزمت في تلك الفترة أبو هذيل العلاف وحلقة مشاهير الاعتزال في ذلك العصر ومن أهمهم النظام الذي كان له دورا كبير في حياتي ([16]) .
أنا : أحببنا أن تحدثنا عن بداية تأليفك ، فقد قيل أنك لاقيت الكثير ممن الإهمال في كتاباتك الأولى مع العلم أن زملائك وأساتذتك من المعتزلة يعلمون بفضلك ؟!
الجاحظ : نعم والله .. حتى كنت ألف الكتب وأنسبها لكتاب مشاهير كعبد الله بن المقفع و والخليل والعتابي وسلم صاحب بيت الحكمة فيروج الكتاب ويأخذ مني ([17]) .
أنا : وقد كان بروز اسمك بعد تولى المأمون الخلافة سنة 198 هـ وكان لأساتذتك الفضل الأول في ذلك ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد تولى المأمون الخلافة سنة 198 هـ بعد خلع الأمين .. وفي سنة 204 هـ استقر المأمون في بغداد بعد رجوعه من مرو .. وشًغل بعدها بعقيدة الإمامة ومستحقيها فعرض عليه شيخ المعتزلة ثمامة بن الأشرس ([18]) أن ألف كتابا في هذا الموضوع فأمرني بذلك ، فألفت كتابي في ( الإمامة ) فأعجب به المأمون وكان ذلك فاتحة عهد جديد لي ، وتحولت من بعدها من البصرة إلى بغداد وأصبح لي مرتبا منذ ذلك التاريخ ([19]) .
 أنا : وقد عينت لفترة رئيس لديوان الرسائل نيابة عن إبراهيم بن عباس الصولي قد كان هذا المنصب من المناصب المهمة في الدولة .. إلا أنك لم تبقى إلا ثلاثة أيام فقط ؟!([20]) .
الجاحظ : نعم .. فلم أقبل هذا المنصب إلى على كره مني ، ولم أبقى فيه إلا مدة ثلاثة أيام .
فقد أبيت أن تستعبد نفسي الحرة حياة الوظيفة وقيودها ، كما كنت كارها للكتاب ودسائسهم ولم أرضى أن أتعامل معهم ([21]) .
وكذلك لرتابة العمل الإداري الذي لا ينسجم مع نفسيتي ، وحسد الحاسدين ومكائد وجو القصور المشحون بالتنافس والبغضاء  ([22])، كل ذلك جعلني أفر من هذا المنصب .
أنا : وكان من حسن حظ الكتاب في ذلك العصر أنك لم تبقى في ذلك المنصب أو كما قال سهل بن هارون : ( إن ثبت الجاحظ هذا الديوان ، أفل نجم الكتاب ) ([23]).
حسنا .. وقد تحسنت حالتك المادية في تلك الفترة ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد اغتنيت بما ألفت .. فقد أقتنيت ضيعة تنسب لي ومالا وبيتا وأقتنيت العبيد من من سبق أن خدم الملوك ورحلت إلى دمشق أنطاكيا ([24]) .
هذا غير رحلاتي في صحاري جزيرة العرب والروم والشام والجزيرة وغير ذلك التي قمت بها سوء من قبل أو بعد ([25]).
أنا : بعد وفاة المأمون وخلافة المعتصم سنة هـ 218 تتصل بالوزير محمد بن عبد الملك الزيات الذي ولى الوزارة سنة 220 هـ والذي ترتبط معه بصداقة حميمة وتتوثق الصلة بينك وبينه بعد أن تتحول الخلافة إلى سامراء سنة 221 هـ ؟!
الجاحظ : نعم ..فقد اتخذت سامراء دار مقام ، وتعمقت الصلة بيني وبين محمد بن عبد الملك الزيات ( 12 ) وقد بلغت في عصر المعتصم منزلة ومجد نفوذ كبير إذ قربت من عرش الخلافة وأصبحت ذو حظوة عند الخليفة ورجال دولته ، وكان من أكثر الناس حبا لي محمد بن عبد الملك الزيات ([26]) .
أنا : وقد تعرفت في هذه الفترة على الكثير من الأدباء ، وخاصة من أصحاب الفكاهات والنوادر من أمثال أبو العيناء والجماز وغيرهم ( 12 ) وأن كنت اعتقد أنك لم تتعرف على أبو العيناء إلى في عصر الواثق أي بعد سنة 227 هـ .
وقد ألفت في عصر المعتصم الكثير من الرسائل أحبببنا ذكر بعضها ؟!
الجاحظ : نعم .. ألفت رسالة ( صناعة القواد ) و ( فضل هاشم على عبد شمس ) وغيرها من الرسائل ([27])
أنا : وقد سببت صلتك بالزيات أن تقف ضد خصمه أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاء نتيجة العداء الذي بينهما ([28]). الجاحظ : نعم ... حدث هذا بالفعل ..
أنا : وفي عصر الواثق تزداد مكانتك وتبلغ منزلة من النفوذ عظيمة حتى رويت لك قصة أحببنا ذكرها ليتبين للجميع مقدار منزلتك ؟!
الجاحظ : حسنا .. دخل علي أحدهم وقال لي : يا أبا عثمان كيف حالك ؟ فقلت له سألتني على الجملة فاسمعها مني واحداً واحداً . حالي أن الوزير يتكلم برأيي ، وينفذ أمري ، ويؤثر الخليفة الصلات إلي ، وأكل من لحم الطير أسمنها وألبس من الثياب ألينها ، وأجلس على ألين الطبري ، وأتكئ على هذا الريش ثم أسير على هذا حتى يأتي الله بالفرج .
فقال الرجل : الفرج ما أنت فيه ؟ فقلت بل أحب أن تكون الخلافة لي ، ويعمل محمد بن عبد الملك بأمري ، ويختلف إلى ، فهذا هو الفرج ([29]) .
أنا : ورغم هذا فربما تسوء علاقتك بمحمد بن عبد الملك الزيات بسبب الوشاة وأدل من ذلك رسالتك الشهيرة والعنيفة التي كتبتها للزيات( في الجد والهزل ) ([30]) .
الجاحظ : حدث هذا بالفعل .. وأن كانت صلتي به دوما طيبة ؟!
أنا : حتى تولي المتوكل الخلافة سنة 232 هـ في ذو الحجة منها ، وكان المتوكل ناقما على الزيات لموقف حدث منه عندما كان وليا للعهد فأعتقله في صفر من سنة 233 هـ وعذب في التنور الذي أقامه الزيات لتعذيب المخالفين ، وقد فررت أنت بنفسك ؟!
الجاحظ : نعم ..فقد كنت من أسبابه وناحيته ، وأحد المقربين إليه فهربت بنفسي إلى البصرة وسألت لما هربت فقلت : خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور ([31]) .
أنا : حسنا .. ورغم هذا فقد اعتقلت ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد أمر ابن أبي دؤاد أن يجاء بي من البصرة ، فجيء بي مقيد الرجلين ، مغلول العنق بسلسلة ، فأدخلت على القاضي ابن أبي دؤاد وأخذ يعنفني فرددت عليه وقلت : ( خفض عليك ، فوالله لأن يكون لك الأمر علي خير من أن يكون لي عليك ، ولأن تحسن وأسئ أحسن في الأحدوثة من أن أحسن وتسئ ، ولأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل بك من الانتقام مني ) فعفى عني وفك قيدي وأجلسني في صدر مجلسه ([32]).
أنا : حسنا .. وقبل أن ننتهي من قصتك مع الزيات .. أحببنا أن أعرض عليك استنتاج عن تأليف كتابك كتاب ( الحيوان ) .
فقد قيل أنك أهديته لمحمد بن عبد الملك الزيات ([33]) ويؤكد هذا مقدمة الكتاب والانتقاد الشديد من قبل الجاحظ لشخص المهدى له الكتاب وهي تشبه لحد كبير رسالة ( الجد والهزل ) المرسلة للزيات.. وعند قراءتي لكتاب الحيوان وجدت ذكر للمتوكل كخليفة في هذا الكتاب ، وذلك عند رواية الجاحظ لقصة عن شخص أسمه عبويه حدثه عن شخص أسمه السوداني أنه كان يربى ذئب كان يصيد به الظباء و الثعالب ، قال الجاحـــــظ :  (وحدثني بهذا الحديث في الأيام التي قــــام بها أمير المؤمنين المتوكل على الله ) .
الجاحـــــظ : (وحدثني بهذا الحديث في الأيام التي قــــام بها أمير المؤمنين المتوكل على الله ) ([34])
وهـــذا يعني أن الكتـــــاب ألف بعد تــولي المتوكل للخــلافة مع العلم أن المتوكل تولى الخلافة في ذو الحجة من سنة 232 هجري وقد قام المتوكل باعتقال الزيات في صفر من سنة 233 هجري أي بعد شهرين من تولي المتوكل للخلافة ، ومات الزيات تحت تأثير التعذيب في ربيع الأول من سنة 233 هجري فهل هذا يعني أنك أنتهيت من تأليف الكتاب وأهديته للزيات في الفترة من ذو الحجة من سنة 232هـ إلى صفر من سنة 233 هـ .
الجاحظ ) ابتسم الجاحظ ولم يعلق )
أنا : حسنا .. نكمل قصتك ، فقد أصبحت من جلساء ابن أبي دؤاد واحد المقربين له ، بل وأخذت تمدحه بشعرك أو بشعر غيرك تدعيه لنفسك ([35]) ، ثم ألفت له كتاب ( البيان والتبيين ) ([36]) واستمرت علاقتك به حتى فلج ( أصابه الشلل ) وقد خلفه أبنه أبو الوليد الذي لزمته حتى انصرف عن القضاء ([37]).
إلى أنه وفي عصر المتوكل تتعمق علاقتك بالفتح بن خاقان وزير المتوكل ؟!
الجاحظ : أحسنت .. فقد تعمقت علاقتي بالفتح بن خاقان وأصبحت وثيق الصلة به وأهديت رسالتي ( مناقب الترك وعامة جند الخلافة ) ، كان الفتح يثني علي عند الخليفة المتوكل ويأخذ لي منه الجوائز ([38]).
حتى ذكرت للمتوكل لتأديب وتعليم بعض ولده فلما رآني استبشع منظري ، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني ([39]) .
أنا : ورغم هذا فقد عظمت شخصية في نظر المتوكل ووزيره لعلمك ومعرفتك حتى طلب منك وأنت بالبصرة أن تكتب كتاب ( في الرد على النصارى ) ([40]).
الجاحظ : نعم .. قد كان يستعجلني في كتابة هذه الكتاب ([41]) الذي ألفته على الأغلب في سنة 235 هـ ([42])
 أنا : الحقيقة من الغريب أن يهتم بك المتوكل كل هذا الاهتمام مع أن المتوكل هو من أمر بترك النظر والجدل وأنهى محنة القول بخلق القرآن وأزال سيطرة المعتزلة بعد سيطرتهم في عصر المأمون والمعتصم والواثق ،ورفع من قدر أهل السنة ، وأنت أحد شيوخ المعتزلة ؟!
الجاحظ : لا أجد هذا من الغريب فقد كنت عالم أديب أريب أعجب أهل عصري بكتبي وعلمي وأدبي ..
وبلغت شهرتي الأفاق وحتى الأندلس والصين.. وبلغت من الشهرة والمجد أن يشرف من يأخذ العلم عني ويتتلمذ علي عند ملوك الأندلس وغيرهم ([43]) وقد بلغ من شهرت كتبي ورسائلي أن تحاشى أبو هفان أن يهجوني وقد نددت به وسأل عن سبب ذلك فقال : أمثلي يخدع عن عقله والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا الصين شهرة ([44]) ، ويحق له ذلك وكيف لا وقد فضحت من قبله أحمد بن عبد الوهاب الكاتب في رسالتي الشهيرة ( التربيع والتدوير ) ، فما أن ألف الكتاب حتى تسير به الركبان إلى أقصى المعمورة ([45])
وكان لزاما أن أعيش في هذا عصر المتوكل في ثراء وجاه ونفوذ عريض بسبب كتبي وعلمي وتقدير مشاهير ذلك العصر وكبار رجلاته حتى دخل علي صديق أسمه ميمون بن هارون وأنا البصرة وقال بعد أن رأى ما أنا فيه من ثراء وجاه : ألك ضيعة بالبصرة ؟ فتبسمت وقلت : إنما أنا جارية لي وجارية تخدمها ، وخادم ، وحمار ، أهديت كتاب ( الحيوان ) إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأعطاني خمسة آلاف دينار ، وأهديت كتاب ( البيان والتبيين ) إلى أحمد بن دؤاد فأعطاني خمسة آلاف دينار ، وأهديت كتاب ( الزرع ) إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاني خمسة آلاف دينار فانصرفت إلى البصرة ، ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد ([46]) .
 فلم أتزوج ولم أرزق بالأولاد أنا هما جاريتان ، والقليل من المال يسد حاجتي ([47])

أنا : وقد اصبت في عصر المتوكل بالفالج بجانبك الأيسر ( الشلل ) والنقرس بجانبك الأيمن ( الروماتزم ) ؟!

الجاحظ : نعم فقد بلغت في عصر المتوكل من العمر 73 سنة على الأقل .
 وقد دخل علي رسل المتوكل وأنا بسامراء في منزلي وقد طلب حضوري فقلت لهم : وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل ولعاب سائل ؟ ثم أقبلت على جلسائي ، وقلت: ما تقولون في رجل له شقان أحدهما لو غرز بالمسال ما أحس والشق الأخر يمر به الذباب فيغوث ( أي يصيح ) وأكثر ما أشكوه الثمانون ([48]).
أنا : وتذكر كثير من المراجع كابن خلكان وصاحب تاريخ بغداد وابن العماد في شذرات الذهب والسندوبي غيرهم أن هذا المرض حدث لك في أخر خلافة المعتصم ([49]) ؟!
الجاحظ : أصبت بالفالج في وقت مبكر من ذلك ولكنه لم يقعدني عن الحركة ولا الكتابة فقد ألفت كتاب الحيوان وأنا مفلوج وكذلك البيان والتبيين والزرع والنخيل وأصابني النقرس وكنت محتفظا بقواي حتى بعد سنة 243 هـ فقد صحبت الفتح بن خاقان لدمشق .. حتى اشتد علي المرض فعدت إلى البصرة وأمضيت بقية حياتي بها ([50])... حتى أن المتوكل وجه في السنة التي قتل فيها أن أحمل إليه من البصرة ، فقلت لمن أراد حملي : وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل ، ذو شق مائل ولعاب سائل ...وعقل زائل ولون حائل ([51])
 
أنا : وبقيت بالبصرة وأنت بهذا الحال في خلافة المنتصر ( 247 248 ) والمستعين ( 248 252 ) والمعتز (252-255 ) .
الجاحظ : نعم .. فقد كبرت في العمر والأيام تضعضع من عمري والمرض يشتد علي ، وقد لزمت بيتي ، ورغما هذا فقد ظللت حافظا على قواي الفكرية العقلية ، قد هرع الأدباء والعلماء إلي من كل مكان للاطمئنان علي ([52])

أنا : وفي خلافة المعتز في المحرم من سنة 255 هـ توفيت ، ولما وصل نعيك إلى قصر الخلافة في بغداد وسامراء أسف المعتز بالله أشد الأسف وقال ليزيد بن محمد المهلبي : يا يزيد ورد الخبر بموت الجاحظ فقال يزيد : لأمير المؤمنين البقاء ، ودوام النعمة ، فقال المعتز : لقد كنت أحب أن أشخصه إلي وأن يقيم عندي ، فرد عليه يزيد : إنه كان بل موته عطلا بالفالج ([53])
 وقد ادعى البعض أنك توفيت نتيجة سقوط أكداس الكتب عليك فقضت عليك ([54]) بينما ، جميع التراجم التي لدي لم تتحدث عن هذا . ([55]) ويبدوا أن وفاتك كانت طبيعية نتيجة الكبر والمرض ..
لم يبقى إلا شيء أحببنا أن نذكر أنك ألفت الكثير من الكتب والتي تزيد عن 250 كتاب في مختلف صنوف العلم كان من أهمها :
كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين وكتاب البخلاء رسالة التربيع والتدوير .وغيرها من الكتب العظيمة التي تعتبر مصدرا من المصادر المهمة لمعرفة ذلك العصر ، وحسبنا أن نقول ما قاله المسعودي في كتبك قال في مروج الذهب : ( ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتب منه .... وكتب الجاحظ ... تجلو صدأ الأذهان ، وتكشف وضاح البرهان ، لأنه نظمها أحسن نظم ، ورصفها أحسن رصف ، وكساها من كلامه أجزل لفظ ، وكان إذا تخف ملل القارئ ، وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل من حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة ، وله كتب حسان : منها كتاب البيان والتبيين هو أشرفها ، لأنه جمع فيه بين المنثور المنظوم ، وغرر الأشعار ومستحسن الأخبار ، وبليغ الخطب ، ما لو اقتصر علي مقتصر لاكتفى به ، وكتاب الحيوان ، كتاب الطفيليين وكتاب البخلاء وسائر كتبه في نهاية الكمال ، مما لم يقصد منها إلى نصب ولا إلى دفع حق ، لا يعلم ممن سلف لا خلف من المعتزلة أفصح منه ) ([56])
 تعتبر كتبك من أحد أه المصادر في معرفة الحالة الإجتماعية والثقافية والسياسية في ذلك العصر ، قد برزت شخصيتك بوضوح في كتبك بعكس المعصارين لك من الكتاب ، وتعتبر أحد عباقرة الكتاب في تاريخ الأدب العربي العالمي وشيخ الأدباء العرب بلا منازع ..
وقد أطنب الكثير في شخصيتك وعلمك وفصاحتك وأدبك وكتبك وعلموا مقدار عظمتك ومنهم النظام وأبو هفان أبو العيناء الحسن بن داود الخطيب البغدادي والمبرد و أبو القاسم الإسكافي وابن دريد والمرزباني وابن العميد وأبو حيان التوحيدي وياقوت الحموي والمسعودي ابن خلدون طه حسين وأحمد أمين وغيرهم الكثير والكثير ..
ويكفي أن تفخر البصرة بكتابين من مؤلفاتك هما الحيوان والبيان والتبيين من أربعة كتب وثالثهما كتاب العين للخليل وكتاب الكتاب لسيبويه وأن يعتبر كتابك البيان التبيين أحد أصول فن الأدب أركانه من بين أربعة كتب أخرى كما قال ابن خلدون وأن يبلغ الأمر وأن يقول أحد العلماء : رضيت في الجنة بكتب الجاحظ عن نعيمها ([57])
و أن يقول ثابت بن قرة وهو أحد كتاب الصابئة لا أحسد هذه الأمة العربية إلى على ثلاثة : عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته .. ودينه ... والحسن البصري في العلم والتقوى .. والجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين ومدره المتقدمين والمتأخرين ... ([58])
لم يبقى من شئ شيخنا الكريم شكرا لك ....
 


([1]) انظر : الزركلي ،  الأعلام ج 5 ص 74 ، ط11 ( بيروت دار العلم للملايين ، 1995 م ) .
([2]) انظر : خفاجي ، أبو عثمان الجاحظ ، ص 53-55 ، ( بيروت ، دار الكتاب اللبناني ، 1982 ) .
([3]) انظر : خفاجي ، أبو عثمان الجاحظ ، ص 53-55 ، ( بيروت ، دار الكتاب اللبناني ، 1982 ) .
([4]) انظر : ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 16 ص 74 ، ط 3 ( دار الفكر ، 1400هـ / 1980 م ) .
([5]) انظر : معجم الأدباء ج 16 ص 74 .
([6]) انظر : الزركلي ،  الأعلام ج 5 ص 74 ، ط11 ( بيروت دار العلم للملايين ، 1995 م ) .
([7]) انظر فوزي عطوي ، الجاحظ دائرة معارف عصره ( سلسلة أعلام الفكر العربي ) ، ص 12 ، ط2 ( بيروت ، دار الفكر العربي ، 1998 م ) .
([8]) انظر : ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج3 ص 473 ، ( بيروت ، دار الفكر ) .
([9]) انظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 56 ، 57 .
([10])لدى الجاحظ صديق اسمه مويس بن عمران كان ذو ثراء وجاه يذكره في كتبه لا أدري أن كان هذا هو وقد حدث تصحيف في هذا الاسم من مؤلف كتاب أبو عثمان الجاحظ أم هو أخ له أم غيره .
([11]) انظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 56 ، 57 .
([12])هذا ما يذكره صاحب كتاب أبو عثمان الجاحظ ,, ويقول ياقوت الحموي أنه ( سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري أخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه ، وأخذ الكلام عن النظام ، وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد [ معجم الأدباء : ج16 / ص74 ] وكان الفضل الأكبر في علمه لأبو اسحاق النظام معلمه وأستاذه وأحد شيوخ المعتزلة في ذلك الوقت ، كما كان لثمامة الفضل الكبير في تقريبه من الخلافة في عهد المأمون وفي إبراز شخصيته .
([13]) انظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 58 ، 59 .
([14]) أنظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 60 ، 61 .
([15]) انظر : ضحى الإسلام ، ج 1 ص 387 .  
([16]) انظر : شوقي ضيف ، تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) ، ص 589 ، ط 2 ( دار المعارف ، مصر ) .
([17]) انظر : شوقي ضيف ، تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) ص 590 .
([18])كان لثمامة دور كبير في عصر المأمون يقول محي الدين اللاذقيني : ( ويجمع مؤرخو ذلك العصر أن ثمامة كان أكثر من مستشار للمأمون ، فقد صار منذ أن اعتنق الخليفة الاعتزال ، وجعله مذهب الدولة الرسمي ، يختار للمأمون بطانته ، وينظم مجالس النشاط العقلي التي ازدهرت في عهد ذلك الخليفة المتنور ، ويرشح كبار موظفي الدولة بما فيهم الوزراء ، ومن ذلك الموقع أدخل معظم المعتزلة إلى الدواوين ، ورشح الجاحظ لمنصب رئيس ديان الكتاب ) [ طواحين الكلام : جريدة الشرق الأوسط / العدد 6631 / بتاريخ 23/1/1997 م ] .
([19]) انظر تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني )  ، ص 590 .
([20])تذكر المراجع الأدبية أن أبو العيناء زار الجاحظ و في ديوان الرسائل مع العلم أن الجاحظ ولي في هذا المنصب في عصر المأمون في ما بين سنة 204 هـ وسنة 215 هـ إذا صحت مقولة سهل بن هارون المتوفي سنة 215 هـ ، وقد ولد أبو العيناء سنة 191 هـ أي أنه حتى تلك الفترة كان يبلغ الرابعة العشرين من عمره ، وقد ذكرت جميع المراجع التي ذكرتها في حواري مع أبو العيناء أن أبو العيناء لم يخرج من البصرة إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره وأنه لم يشتهر إلا في عصر الواثق ، فلا أدري هل رواية زيارة أبو العيناء للجاحظ رواية مختلقة وغير صحيحة ، أم أن أبو العيناء كان معروف في تلك الفترة وحسبما ذكره صاحب كتاب ( قول على قول ) الذي يدعي أن أبو العيناء كان يحضر مجلس المأمون وأنه أعمى في ذلك الزمن [ قول على قول : ج1 / ص387 ] ، أم أن الجاحظ قد عين على ديوان الرسائل في عصر الواثق أو المتوكل .
 الذي أرجحه أن تلك الرواية كانت مختلقة فقد كان أبو العيناء صغير السن في ذلك الوقت كما أن معرفة الجاحظ بأبو العيناء لم تتم إلى في عصر الواثق ولم يشتهر أبو العيناء إلا في زمن الواثق ولم يخرج من البصرة إلا بعد الأربعين من عمره أي بعد سنة 231 هـ ( قد توفي المأمون سنة 218 هـ ) وقد أصاب العمى بعد ذلك كما تذكر جميع المصادر التي تحدثت عنه .
 كما لم تذكر جميع المصادر التي تحدثت عن الجاحظ أنه ولي مرة أخرى في ديوان الرسائل إلا مرة واحدة ولمدة ثلاثة أيام في عصر المأمون .
([21]) انظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 68 .
([22]) انظر : الجاحظ دائرة معارف عصره ، ص 14 .
([23]) انظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 68 .
([24]) انظر : أحمد أمين ، ضحى الإسلام ، ج 1ص 387 ، 388 ، ط10 ، دار الكتاب العربي .
([25]) انظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 64 .
([26])أبو عثمان الجاحظ : ص71 .
([27])أبو عثمان الجاحظ ص72 .
([28])أبو عثمان الجاحظ / الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي (–دار الكتاب اللبناني – بيروت –1982 ) : ص 53 ، 54 ،55  .
([29])تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ( دار الكتب العلمية –بيروت ) : ج12 / ص219 .
([30])يقول الجاحظ في بداية رسالته ( في الجد والهزل ) : ( ليس من أجل اختياري النخل على الزرع أقصيتني [ رسائل الجاحظ - تحقيق محمد عبد السلام هارون – ج1 / ص231 ] ) وقد ألف الجاحظ كتاب ( الزرع والنخل ) لإبراهيم بن العباس الصولي الذي أعطاه خمسة آلاف دينار في خلافة الواثق على الأرجح لأنه ذكر هذه الرسالة في مقدمة كتاب الحيوان أيضا الذي أغلب الظن أنه ألف في بداية حكم المتوكل ، وقد كانت العلاقة بين محمد بن عبد الملك الزيات والصولي سيئة فقد غضب الزيات - مع أنه كان صديقا له -على الصولي وعزله من ولاية معونة الأهواز وخراجها واعتقله بسبب اتهامه بدعوا أن أموالا كثيرة لم تؤدى إلى بيت الخراج واتامه بالتلاعب بأموال الدولة وخراجها ولم ينجو من عقاب الزيات إلى بعد تدخل الخليفة الواثق الذي أمر الزيات برد حريته إليه وجعله من حاشيته ، فبسط الصولي لسانه في غريمه ( الزيات ) ونظم فيه الأشعار ذاما وهاجيا ( تاريخ الأدب العربي : العصر العباسي الثاني / ص575 ).. وكان طبيعيا أن يغضب الزيات على الجاحظ لإهدائه كتاب ( الزرع والنخل ) للصولي نتيجة للعداوة التي بينهما .
([31])أبو عثمان الجاحظ : ص76 ، 77  .
([32])أبو عثمان الجاحظ : ص76 ، 77  .
([33]) انظر : معجم الأدباء ج16 ، ص106 .
([34])الحيوان / الجاحظ ( تحقيق فوزي عطوي – دار صعب –بيروت – 1402/1982 ) : مج 2 / ص674 .
([35])معجم الأدباء : ج16 / ص81 .
([36]) انظر : معجم الأدباء ج16 ، ص106 .
([37])أبو عثمان الجاحظ : ص78 .
([38])أبو عثمان الجاحظ : ص78 .
([39]) انظر : أبو عثمان الجاحظ ، ص 78 وانظر مروج الذهب ج 4 ص 97 ، ( بيروت ، المكتبة الإسلامية ) .
([40])أبو عثمان الجاحظ : ص79 .
([41])أبو عثمان الجاحظ : ص79 .
([42])تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) : ص 79 .
([43])معجم الأدباء : ج16 / ص104 .
([44])معجم الأدباء : ج16 / ص99 .
([45])معجم الأدباء : ج16 / ص90 .
([46]) انظر : معجم الأدباء ج 16 ص 106 ، وانظر كذلك : أبو عثمان الجاحظ ص 79 .
([47])تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) : ص 79.
([48])معجم الأدباء : ج16 / ص103  .
([49])أبو عثمان الجاحظ : ص83 .
([50])تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) : ص 79 .
([51])أبو عثمان الجاحظ : ص83 .
([52])أبو عثمان الجاحظ : ص80 ، 84  .
([53])أبو عثمان الجاحظ : ص259 ، 260 .
([54])أبو عثمان الجاحظ : ص259 ، 260 .
([55])لم تذكر وفاة الجاحظ بسبب سقوط الكتب عليه في المصادر التي لدي فكتاب وفيات الأعيان وهو من أهم كتب التراجم لم يذكر هذه القصة ، وكذلك كتاب معجم الأدباء لياقوت الحموي الذي أخذ جميع معلوماته أو معظمها من كتاب ( تقريظ الجاحظ ) لأبو حيان التوحيدي وكذلك كتاب تاريخ بغداد .. وهي من أهم المصادر في تراجم الأدب العربي .. قد كنت اعتقد أن هذه القصة قد اختلقت ربما لتظهر مدى تعلق الجاحظ بكتبه الذي عرف به واشتهر من معاصريه ومن كتاباته ( كمقدمة كتاب الحيوان ) وارتباطه بها وحتى وفاته بسببها . لكن أطلعت في كتاب أبو عثمان الجاحظ للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي قوله : ( وفي أمسية من أمسيات شهر المحرم كان جالسا ( أي الجاحظ ) في حجرة كتبه ومطالعته العزيزة عليه ، الحفي بها ، فانهالت عليه أكداس الكتب فقضت عليه ) ( 35 ) وفي هامش هذا الكتاب وفي صفحة 259 ذكر المصدر ( مروج الذهب ) المجلد الثاني صفحة 122 . كان من حسن الحظ أن يكون لدي نفس هذا الكتاب ونفس الطبعة التي بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد والتي أخذ عنها المؤلف .. رجعت إلى هذه الصفحة من كتاب مروج الذهب ( أي المجلد الثاني ، صفحة 122 ) فذهلت أني لم أجد ذكر للجاحظ في هذه الصفحة أبدا ... وقد ألف خفاجي كتابه هذا قبل سنة 1967 م ( ص 246 ) ولا أدري أن كانت هذا الخطأ الذي وقع فيه هذا الكاتب هو بداية قصة وفات الجاحظ بسبب كتبه أم لا فقد ذكر الزركلي هذه القصة في كتابه ( الأعلام ) الذي أتم أكمال كتابه بطبعة الرابعة قبيل وفاته سنة 1976 م ولم يذكر من مصادرة هذا المؤلف ( أبو عثمان الجاحظ ) ولا أدري هل أخذ قصة سقوط الكتب على الجاحظ من مصدر أخر أم لا .. على العموم .. جميع المصادر التي لدي مثل ضحى الإسلام لأحمد أمين و تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) لشوقي ضيف ومقدمة ( كتاب الحيوان ) ( تحقيق فوزي عطوي – دار صعب ) - وأن ذكر قصة سقوط الكتب على الجاحظ في كتيب ( الجاحظ دائرة معارف عصره ) - ومقدمة كتاب البخلاء ( تحقيق : علي جارم بك ، أحمد العوامري ) لا تتحدث عن تسبب الكتب في وفاة الجاحظ ، بل معظمها تذكر أن وفاته كانت بسبب المرض .... وبذلك أرجح أن تكون قصة سقوط الكتب مختلقة وفي عصرنا هذا ...
([56])مروج الذهب : ج4 ص195 .
([57])أبو عثمان الجاحظ : ص264 .
([58])معجم الأدباء : ج16 / ص95 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق