مولد
الجاحظ
ولد الجاحظ في البصرة وقد
كانت البصرة من أكبر حواضر العلم والأدب في ذلك العصر قبل أن تزدهر بغداد وكان
يجتمع في في مجالسها ومساجدها ( وخاصة المسجد الجامع ) الكثير من الأدباء والعلما
والنحاة واللغويين والذين عرفوا بـ ( المسجديين ) ([1]).
ولم يحدد أبو عثمان مكان
داره في البصرة وإن كان ذكر أماكن كثيرة فيها في البخلاء والحيوان مثل مسجد عتاب
والمسجد الجامع ، والأساورة ، ويذكر محمد عبد المنعم خفاجي أنه ومن خلال الحيوان
ما يدل على أنه كان يسكن في شارع يسكن فيه ابن الزيات وإن كان الأستاذ خفاجي
يستدرك فيذكر أن الظاهر أن ذلك كان ببغداد أثناء إقامة أبي عثمان فيها أيام
المأمون ([2]).
وقد اختلف الدارسون لحياة
الجاحظ في تحديد مولد الجاحظ ، وقد اعتمد البعض في مولد الجاحظ على بعض الأقوال
المنسوبة للجاحظ ، فقيل أنه ولد في سنة 150هـ ، وقيل ولد في سنة 155هـ ( ابن
الجوزي ) وقيل ولد سنة 159هـ و 160هـ( شفيق جبري ) ، والكثير ممن ترجم للجاحظ في
الكتب حديثًا يرجح هذين التاريخين ، و البعض يذكر انه ولد في سنة 163هـ ( الزركلي
) و 164هـ ( آلفارد ) و 165هـ ( الصفدي كما رواه آيبنبلاسيوس ) ([3]) ، وقد عده ابن المرتضي من
رجال الطبقة السابعة ([4]).
ومن أشهر تلك الأقول التي
تنسب للجاحظ في تحديد مولده ، تلك الرواية التي يوردها ياقوت الحموي عن المبرد حيث
يقول : ( وحدث المبرد قال : دخلت على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له: كيف أنت؟ فقال :
كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار
الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها )([5]) ، وقد توفي الجاحظ في سنة
255هـ فإن صحت هذه الرواية فيكون مولد الجاحظ على هذه الرواية في سنة 159هـ ( 775
م ) وفي خلافة المهدي ، أو في سنة 158هـ كما يذكر طه الحاجري ([6]).
وتورد رواية أخرى للخطيب
البغدادي لهذه الحكاية بشكل أخر : ( وأخبرني الصيمري، حدثنا المرزباني، أخبرنا أبو
بكر الجرجاني قالا : حدثنا المبرد قال : دخلت على الجاحظ في آخر أيامه وهو عليل،
فقلت له: كيف أنت؟ فقال : كيف يكون من نصفه مفلوج ولو نشر بالمناشير ما حس به،
ونصفه الأخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، والآفة في جميع هذا أني قد جزت
التسعين ) ([7]) والاختلاف هنا في الولااية ست سنوات ربما من أثر
التصحيف في الرواية .
وقد أورد ياقوت الحموي بعض
الروايات الشبيه لهذه الرواية يقول ياقوت : ( وحكى أبو علي القالي عن أبي معاذ
عبدان الخوئي المتطبب قال: دخلنا يوما بسرّ من رأى على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده
وقد فلج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المتوكل إليه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين
بشق مائل ولعاب سائل؟! ثم أقبل علينا فقال : ما تقولون في رجل له شقان أحدهما لو
غرز بالمسالّ ما أحس، والشق الآخر يمرّ به الذباب فيغوّث، وأكثر ما أشكوه الثمانون
)([8]) ، ويحدد ياقوت حدوث هذا الحوار بسنة مقتل
المتوكل يقول في رواية أخرى : ( وحدث يموت بن المزرع قال : وجه المتوكل في السنة
التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة، فقال لمن أراد حمله: وما يصنع أمير
المؤمنين بإمرئ ليس بطائل، ذي شق مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل ) ([9]) ، وقد قتل المتوكل في سنة
247هـ فيكون مولد الجاحظ على حسب هذه الرواية في سنة 157هـ .
يرى شارل بلات التي ينقلها
ياقوت الحموي تختلف في تحديد السنوات التي بلغها من العمر فذكر البعض أنه قال ( وأشد
ن ذلك ست وتسعون سنة انا فيها ) وفي خبر آخر ( أنا في هذه العلل المتناقضة التي
يتخوف من بعضها التلف وأعظمها ست وتسعون سنة ) و تجعل أخرى عمره في الثمانية
وراوية أخرى في السبعية ومثلها في التسعين ويرى شارل أن لولا أنه تعرف على أبي
يوسف يعقوب لخلق لنا التاريخان الأخيران مشكلة عويصة لأن المعروف عن النساخ أنهم
يخلطون بين السبعين والتسعين ([10]).
ويرى البعض بأن الجاحظ ولد
في أوائل عام 150هـ ( 707 م ) ويروون أيضًا عن الجاحظ رواية يذكرها ياقوت الحموي
أيضًا يقول ياقوت الحموي : ( قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول
سنة خمسين ومائة وولد في آخرها. ) ([11]).
ويرى محمد عبد المنعم
خفاجي أن هذه الرواية والتي تحدد مولد الجاحظ بسنة ( 150 هـ ) نص صريح على أنه ولد
عام 150هـ ( فبراير 767 م ) في خلافة المنصور وإن ذكر البعض أنه ولد في عام 159هـ
( 775 م ) أو عام 160هـ ( 776 م ) ([12]).
ومن قبله رجح السندوبي هذا
الرأي وقد اعتمد في ذلك على رواية ياقوت المذكورة حيث السندوبي ( أنه ليس هذا نص
يعتد به في هذا الشأن ) ، ورغم ذلك فإن السندوبي يذكر أن ابن خلكان يروي في كتابه
عن أبي بكر الخطيب البغدادي أنه ذكر أبا نواس في تاريخ الذي وضعه لبغداد وقال : إن
ميلاده ( يعني أبا نواس ) كان في سنة 146هـ ، ويرى السندوبيإن هذا لا يصح الأخذ به
أو الاعتماد عليه بعد نص الجاحظ عن نفسه وعنه ويرى السندوبي أن ميلاد الجاحظ
بالبصرة في ذلك التاريخ وقد مضى على تأسيسها 136 سنة ([13]) .
وقد حدد ابن الأثير تاريخ
وفاة أبو نواس وذلك بتاريخ 195هـ وذكر أن عمره 59 سنة [ انظر حوادث سنة 195هـ ]
وبالتالي فإن مولده كان في سنة 136هـ تقريبًا ، وقد شكك البعض في رواية ياقوت لأن
أبو نواس ولد وعلى المشهور سنة 145هـ أو سنة 146هـ أو على قول بعض المؤرخين سنة
130هـ ويذكر البعض ان مولده في سنة 139هـ وكل هذه التواريخ بعيدة عن تاريخ مولد
الجاحظ وقد توفي الجاحظ في سنة 255هـ ، فإن ولد الجاحظ في سنة 150هـ فقد تجاوز
عمرة المائة سنة وهو أمر لم يشر إليه أحد كما يذكر البعض ([14]).
وقد تحدث شارل بلات عن
مولد الجاحظ فذكر أنه ولد في سنة 155هـ حسبما ينقل ابن الجوزي في مرآة الزمان ،
ونقل شارل ما ذكره ياقوت عن الجاحظ من انه أسن من أبو نواس أي أنه ولد في سنة 150
هـ ، وعلق شارل بلات فذكر أن حسن السندوبي قد قبل دون نقاش الخبر المذكور ومنحه
صحة مطلقة ، ويرى شارل بلات أن ياقوت الرومي ( الحموي ) وهو متأخر كان أول من ذكر
الخبر دون أن يصحبه بإسناد وذكر بلات أن ولادة أبي نواس ليس معروفة على وجه الدقة
فهو يختلف حسب المصادر ، ويرى شارل بلات أنه يجب أن نعتبر ولادة الشاعر أبي نواس
سنة 150هـ كغاية إتجه إليها المؤرخون في حين أن تاريخ 160هـ هو بالنسبة للجاحظ
نهاية انطلق منها مؤرخوه وقد اعتمد شارل بلات على وفاة أبي يوسف القاضي سنة 182هـ
أستاذ الجاحظ في علم الحديث ، ويرى شارل بلات أنه إن ثبت أنه ولد في سنة 150هـ
فإنه بلغ من العمر ( 105 ) سنة ولم يشر أحد من مترجميه كما يقول شارل بلات إلى هذه
الناحية وإن كان ابن الجوزي ذكر أنه بلغ المائة ، ويرى في الأخير شارل بلات انه
هناك اعتبارات تحملنا على عدم الثقة بالخبر الذي رواه ياقوت عن مولد الجاحظ وأبي
نواس ويرى أننا إن اعتبرنا أن الرجلان في معاصران لبعضهما لكان من البديهي أن يتعارفا
في شبابهما ولترددا على نفس الحلقات العلمية ، ويرى شارل بلات أن هناك علائم تدل
على أنهما اجتمعا في وقت متأخر وأنه يجب الحيطة في هذا الأمر ، ولذلك يرجح شارل
بلات الخبر الذي يتحدث عن أنه بلغ ( 96 ) سنة عند وفاته وبالتالي فهو يرجح بان
الجاحظ ولد حوالي سنة 160 هـ ([15]).
ويجب ان نذكر هنا أن
الرواية التي ينقلها ياقوت من أن الجاحظ أسن من أبي نواس ، يذكر أبو الجماز مثلها
عن نفسه يقول الخطيب البغدادي عن الجماز أنه : (كان يقول: إنه أكبر سنا من أبي
نواس. ) ([16]) ، وقد كان الجماز هذا
صديق للجاحظ ولا استبعد أبدًا أن يكون هناك خلط فنسبت مقولة الجماز إلى الجاحظ في
حين أن قائل تلك المقولة هو الجماز .
بل إن صاحب الفهرست يذكر رواية أخرى غير هذه
الرواية يقول فيها : ( حدثنا أبو عبيد الله قال : أخبرني محمد بن يحيى ، قال :
سمعت أبا الهاشمي يقول ، قال الجاحظ : أنا قريب من سن أبي نواس وأنا أسن من الجماز
) ([17]) ، فأنت إن اطلعت على هذا وجدت أن هذه الروايات تتناقض
جدًا فلا نعلم أيهم الصحيحة ، فهل الجاحظ أسن من أبي نواس كما يذكر ياقوت ،
أو هو قريب من سن أبي نواس وأكبر من الجماز كما تذكر رواية ابن النديم ، أم أن
الجماز أكبر سنًا من أبي نواس كما يرد في رواية الخطيب البغدادي ! .
ومهم يكن الأمر فإننا نرجح
بالفعل أن الجاحظ قد ولد في سنة 150هـ أو على الأقل ولد في سنة 153هـ في خلافة
المنصور ( توفي في أخر سنة 158هـ ) ، وهذا الترجيح لا نعتمد فيه على تلك الروايات
المتناقضة ولكن على ما ذكرته بعض الكتب بأن من شيوخه أبي يوسف القاضي وقد توفي أبو
يوسف في سنة ( 182هـ ) ، وإن كان الجاحظ وفي حديثه عن أبي المنذر النضر بن إسماعيل
القاص البليغ يقول عنه كان رئيس الشعوبية قبلنا بالبصرة وقد توفي هذا سنة 182هـ ([18]).
وأيضًا ما يرويه الجاحظ في
بعض كتبه عن بعض العلماء مثل يونس بن حبيب وقد ذكر الجاحظ أن توفي في سنة 182هـ ،
وحماد بن سلمة وقد توفى في سنة 167هـ ([19]) وسلام بن مسكين ( ت 168هـ ) ([20]) ، فمن غير المعقول أن
يروي الجاحظ عن حماد بن سلمة وسلام بن مسكين وعمره عشر سنوات تقريبًا مما يدل على
أنه ربما ولد في سنة 150هـ أو 151 هـ أو 152هـ .
ومما يدعم هذا الرأي أن
الجاحظ يذكر أنه دخل على
أمير البصرة إسحاق بن سليمان الهاشمي الذي ولي البصرة لهارون الرشيد في الفترة بين سنة 178 ( في
ذو الحجة ) إلى 179هـ ، يقول في الحيوان : ( ولقد دخلت على إسحاق بن سليمان في
إمرته فرأيت السماطين والرجال مثولا كأن على رؤوسهم الطير ورأيت فرشته وبزته ثم
دخلت عليه وهو معزول وإذا هو في بيت كتبه وحواليه الأسفاط والرقوق والقماطر
والدفاتر والمساطر والمحابر فما رأيته قط أفخم ولا أنبل ولا أهيب) ([21]) ، وإن كنا لا نقطع أن ذلك من قول الجاحظ فقد يكون
الذي دخل على هذا الأمير هو ابن داحة والنص لا يوضح ذلك مع الأسف ([22]) .
ولو صح أن الجاحظ هو من دخل على هذا الأمير الذي ولي
على البصرة في سنة 178هـ وعزل سنة 179هـ ، يقول خليفة بن خياط في
تاريخه وهو يتحدث عن ولاة البصرة في عهد هارون الرشيد : ( ثم عزل سنة ثمان وسبعين
ومائة وولى عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس فشخص في شوال سنة ثمان وسبعين
ومائة واستخلف مالك بن علي الخزاعي ثم ولى اسحق بن سليمان بن علي في آخر ذي الحجة
سنة ثمان وسبعين ومائة ثم عزله سنة تسع وسبعين ومائة وولى سليمان بن جعفر ) ([23]) .
فيظهر من هذا أن الجاحظ
بدأ يظهر ويشتهر في مجتمع البصرة الأدبي والعلمي بحيث يتصل بالعلماء والأدباء
والأمراء في فترة مبكرة جدًا من حياته وإن صح دخول الجاحظ على إسحاق بن سليمان في أواخر
سنة 178هـ أو 179هـ ، يكون عمر الجاحظ حين دخل على هذا الأمير حوالي 28 سنة
تقريبًا هذا إذا اعتبرنا أن إن مولد الجاحظ في سنة 150هـ .
وإن تأخرنا في سنة مولد الجاحظ إلى 160 هـ فيكون
عمر الجاحظ في 19 سنة من عمره ، وأنا لا أرجح هذا العمر وأجد انه عمر مبكر لكي
يدخل فيه على الأمراء وخاصة أنه قد عاش في أسرة متواضعة وفقيرة وكان الجاحظ يتيمًا
في هذه الفترة إلا إذا اعتبرنا أن دخول الجاحظ على إسحاق بن سليمان كغلام للنظام أو
بصحبة أحد شخصيات البصرة البارزة مثل مويس بن عمران أو غيره .
([4])د . بلقاسم الغالي ، الجانب الاعتزالي عند الجاحظ ، ط1 ( بيروت ، دار ابن
حزم ، 1420هـ / 1999م) ، ص 43 .
([5])ياقوت الحموي ، إرشاد الأريب لمعرفة الاديب ( معجم الادباء ) ، ج 5 ص 2121
، تحقيق : إحسان عباس ، دار الغرب ، بيروت ، ط1 ، 1414هـ - 1993 م .
([8])ياقوت الحموي ، إرشاد الأريب لمعرفة الاديب ( معجم الادباء ) ، ج 5 ص 2116
، تحقيق : احسان عباس ، دار الغرب ، بيروت ، ط1 ، 1414هـ - 1993 م .
([9]) ياقوت الحموي ، إرشاد الأريب لمعرفة الاديب ( معجم الادباء ) ، ج 5 ص
2121 ، تحقيق : احسان عباس ، دار الغرب ، بيروت ، ط1 ، 1414هـ - 1993 م .
([10]) انظر : شارل بلات ، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء ، ص 91 ، 92 . وانظر : معجم الأدباء ، ج 5 ص 2121 .
([11])ياقوت الحموي ، إرشاد الأريب لمعرفة الاديب ( معجم الادباء ) ، ج 5 ص 2101
، تحقيق : احسان عباس ، دار الغرب ، بيروت ، ط1 ، 1414هـ - 1993 م .
([14]) أنظر : د . محمد حمود ، الجاحظ أمير البيان وعالم الحيوان ،
، ط1 ، 2004 ، دار الفكر اللبناني ، ص 8 . وانظر : شوقي ضيف ، تاريخ الادب العربي
ج3 ص 221 .
([16])خليفة بن خياط ، تاريخ خليفة بن خياط ، ص 462 ، تحقيق : د . أكرم ضياء
العمري ، ط2 ( دمشق - بيروت ، دار القلم ، 1397هـ ) .
([22]) أن نص الجاحظ غير واضح حول من دخل على إسحاق بن سليمان هل هو الجاحظ نفسه
أم هو ابن داحة ( إبراهيم ) فالجاحظ ينقل قبل خبره ذلك مقوله عن ابن داحة فهل خبره
عن الاتصال بإسحاق بن سليمان متم لحديث ابن داحة خاصة وأنه يواصل بعد ذلك مقولة
لابن داحة بعد ذلك الخبر ، أو هو تعليق من قبل الجاحظ على مقولة ابن داحة ؟ أرجح
أنا أن من دخل على الأمير العباسي هو الجاحظ نفسه فقد كان ابن داحة من مشايخ
الشيعة [ البيان والتبيين ج 1 ص 84 ، مكتبة الخانجي ]وقد وصفه الجاحظ بأنه رافضيًا
[ الحيوان ج 3 ص 403 ]، ومن الصعب ان يدخل على الأمراء العباسيين ، وإن كان ان
الراغب الأصفهاني في ( محاضرات الأدباء ) يذكر له حكاية في مجلس محمد بن سليمان [
محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ، ج2 ص 614 ] ، ومن صياغة النص يرجح أن
الجاحظ هو من دخل على هذا الأمير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق