رسالة الجد والهزل
من مخطوطة كتابي ( حياة الجاحظ )
وقد
ذكر أن هذه الرسالة قد ألفت لمحمد بن عبد الملك الزيات ([1])،
وقد ذكر الجاحظ فيها ان المعتصم قد مات ، فهو يقول : ((وأعنت على موت المعتصم،
وغضبت لمصرع الأفشين )) ([2])
.
ولم
يذكر الجاحظ هذه الرسالة من ضمن الكتب والرسائل التي ألفها في كتاب الحيوان ، وقد
يعتقد البعض أنها ألفت بعد كتاب الحيوان ، إلا أننا نعتقد أن هذه الرسالة كانت في
فترة قريبة من تأليف الجاحظ لكتاب ( الحيوان ) وهذه الرسالة يصف فيها الجاحظ ما
جرى بينه وبين الوزير محمد بن عبد الملك الزيات ، ويظهر وفي
الرسالة أن الوزير محمد بن عبد الملك
الزيات كان ينتقد جمع الجاحظ لكتبه وتسميته لكتب الحيوان بالمصحف ، يقول الجاحظ ((كان
وجه التدبير في جملة القول في البغال، أن يكون مضموما إلى جملة القول في الحافر
كله، فيصير الجميع مصحفا، كسائر مصاحف «كتاب الحيوان» )) ([3])
، والجاحظ وفي كتاب الحيوان وفي أخر كل جزء من كتاب الحيوان كان يقول ( تم المصحف ... من
كتاب الحيوان ويليه .. ) ، كما يذكر عبد السلام هارون في النسخة الشنقيطية([4])،
وقد انتقد الزيات هذه الطريق في جمع الكتب أو تسميتها بالمصحف كما يذكر الجاحظ ( في
رسالة الجد والهزل ) يقول الجاحظ ((وقلت: لأمر ما جمعوا أسباع القرآن وسوره في
مصحف، ولم يدعوا ما فيه مفرّقا في الصّدور، ولا مبدّدا في الدفاتر، ومفرّقا في
القماطر. على ذلك أجمع المسلمون، والسابقون الأولون، والأئمة الرشيدة، والجماعة
المحمودة، فتوارثه خلف عن سلف، وتابع عن سابق، وصغير عن كبير، وحديث عن قديم.
ولم
أشكّ في أنها نصيحة حازم، ومشورة وامق، أو رأي حضر أو حكمة نبغت، أو صدر جاش فلم
يملك، أو علم فاض فلم يردّ، استعمله من استعمله، وتركه من تركه.
فلما
أخذت بقولك، وصرت إلى مشورتك وأكثرت حمد الله على إفادتك من العلم وحظّ عنايتك من
النّقل، وجمعت البعض إلى البعض،والشّكل إلى الشّكل، وتقدّمت في استجادة الجلود،
وفي تمييز الصنّاع، وفي تخيّر البياعات، وغرمت المال، وشغلت البال، وجعلتها مصحفا
مصحفا، وأجملتها صنفا صنفا؛ ورأيت أنّي قد أحكمت شأني .. الخ )) ([5])
.
وينقل الجاحظ عن الوزير محمد بن عبد الملك الزيات
قوله : (( وقد كان في الواجب أن يدع الناس اسم المصحف للشيء الذي جمع
القرآن دون كل مجلّد، وألّا يروموا جمع شيء من أبواب التعلّم بين الدّفّتين،
فيلحقوا بما جعله السّلف للقرآن غير ذلك من العلوم.)) ([6])
، وهذا النص أحد ادلتنا التي نعتمد عليها في تحديد تأليف الجاحظ لهذه الرسالة في
وقت تأليف الجاحظ لكتاب الحيوان فلم يؤالف الجاحظ أي كتاب قبل كتاب الحيوان يتكون
من عدة أجزاء ، ومقولة ابن الزيات ما هي إلا إشارة لكتاب الحيوان ويظهر لنا أن
الجاحظ كان يعرض كتاب الحيوان على الوزير محمد بن عبد الملك الزيات .
وقد
يعتقد البعض ان هذه الرسالة قد أرسلت إلى محمد بن عبد الملك الزيات بعد اعتقاله في
بداية عهد المتوكل ( سنة 233هـ ) ، فقد كانت الرسالة شديد النقد للزيات وتصرفاته
ويدلل على ذلك بانها لم ترد في كتاب الحيوان .
إلا
إننا ومن خلال معرفتنا بإسلوب الجاحظ الساخر وعلاقته بالوزير محمد بن عبد الملك
الزيات نستبعد هذا الإحتمال ونعتقد ان
(كتاب الحيوان ) في أجزاءه ( الخمسة الاولى أو الستة ) ورسالة ( الجد
والهزل ) قد سجلت في فترة واحدة متقاربه وقبل اعتقال محمد بن عبد الملك الزيات ويتضح
ذلك من مخاطبة الجاحظ للوزير محمد بن عبد الملك الزيات التي توضح مقدرة ابن الزيات
ومقدار ظلمة وغضبه وتظهر استعطاف الجاحظ له ودعوات الجاحظ له وعدم اشارته لأي
اعتقال أو عقاب ناله ابن الزيات .
ونضيف
لذلك أن سخط محمد بن عبد الملك الزيات على الجاحظ كان لتأليفه ( رسالة الزرع
والنخل ) فالجاحظ يقول ( جعلت فداك ليس من أجل اختياري النخل والزرع أقصيتني ) و (
متى صار اختيار النخل على الزرع يحقد الإخوان ) ، والجاحظ أيضًا يورد كتاب الزرع
والنخل في كتاب الحيوان ، وقد ألف الجاحظ تلك الرسالة لإبراهيم بن العباس الصولي
وكانت العدوة بين الزيات والصولي شديدة في خلافة الواثق ( وفي الرسالة يتحدث
الجاحظ عن موت المعتصم ) فكان ذلك سبب سخط ابن الزيات على الجاحظ ([7]).
والرسالة
لها أهمية كبيرة جدًا وتعتبر من أهم الرسائل التي تعرفنا بحياة الجاحظ العائلية
ومن ذلك أن للجاحظ أمة وعبد ، يقول الجاحظ : (( وأنا أعجز عن نفسي وعن تدبير أمتي
وعبيد )) ([8]).
وتوضح الرسالة رغبة الجاحظ في أن ينجب أبنًا
وانتقاد ابن الزيات على هذه الرغبة بدعوى كبر سن الجاحظ ، يقول الجاحظ : (( ما كان
عليك أن يكون لي ولد يحيي ذكرى ويحوى ميراثي، ولا أخرج من الدنيا بحسرتي، ولا
يأكله مراء يرصدني، وابن عم يحسدني )) ([9])
، ويقول : (( وما كان عليك مع كبر سني وضعف ركني، أن يكون لي ريحانة أشمها وثمرة
أضمها، وأن أجد إلى الأماني به سببا، وإلى التلهي سلما، وأن تكثر لي من جنس سرور
الحالم، وبقدر مايمتع به راجيالسراب اللامع، حتى حببت قصر عمري إلى وليي، وشوقته
إلى ابن عمي وحتى ذدت فيما عنده
مع
كثرة ما عنده، وحتى صيرني حبه لموتي إلى حب موته، وتأميل مالي إلى تأميل فقره؛
وحتى شغلتني عمن كان يشغل عدوي عني.
وسواء
أعبت على ألا يكون لي ولد قبل أن يكون، أو عبت على ألا يكون بعد أن كان. وإنما
يعذب الله على النية والقصد، وعلى التوخي والعمد.
وكما
أنه سواء أن تحتال في ألا يكون لي مال قبل أن أملكه. أو احتلت في ألا يكون بعد أن
ملكته.)) ([10])
، ويقول : ((ولا لم زهدتني في طلب الولد،
ورغبتني في سيرة الرهبان.)) ([11]).
والجاحظ يتحدث في هذه الرسالة عن ترصد ابن عم له
ورغبته في ميراث الجاحظ وتمني وفاته يقول الجاحظ : (( وابن العم الذي ليس بالبعيد
فيحتك من جسده، وليس بالقريب المحنو على رحمه، وسببه الجاذب له إلى تمي مماتي أمتن
من سببه إلى تمني بقائي، وهو إلى الحال الموجبة للقسوة والغلظة أقرب منه إلى الحال
الموجبة للرقة والعطف. وليس ينصرك إذا نصرك ولا يحامي عليك لقرابته منك، ولكن
لعلمه بأنه متى خذلك حل به ضعفك، واجترأ بعد ضعفك عليه عدوه. فهو يريد بنصره من لا
يجب عليه شكره، ويقوي ضعف غيره بدفع الضعف عن نفسه.)) ([12]).
كما
تعرفنا بعض المعلومات التي تتطرق لوصف الجاحظ وميوله وذلك في قوله : (( ولم أعجب
من دوام ظلمك، وثباتك على غضبك، وغلظ قلبك، ودورنا بالعسكر متجاورة، ومنازلنا
بمدينة السلام متقابلة، ونحن ننظر في علم واحد، ونرجع في النحلة إلى مذهب واحد؛
ولكن اشتد عجبي منك اليوم وأنا بفرغانة وأنت بالأندلس، وأنا صاحب كلام وأنت صاحب
نتاج، وصناعتك جودة الخط وصناعتي جودة المحو، وأنت كاتب وأنا أمي، وأنت خراجي وأنا
عشري، وأنت زرعي وأنا نخلي. فلو كنت إذ كنت من بكر كنت من تميم، كان ذلك إلى
العداوة سببا، وإلى المنافسة سلما.
أنت
أبقاك الله شاعر وأنا راوية، وأنت طويل وأنا قصير، وأنت أصلع وأنا أنزع، وأنت صاحب
براذين وأنا صاحب حمير، وأنت ركبن وأنا عجول، وأنت تدبر لنفسك وتقيم أود غيرك،
وتتسع لجميع الرعية، وتبلغ بتدبيرك أقصى الأمة، وأنا أعجز عن نفسي وعن تدبير أمتي
وعبدي. وأنت منعم وأنا شاكر، وأنت ملك وأنا سوقة، وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت تفعل
وأنا أصف، وأنت مقدم وأنا تابع، وأنت إذا نازعت الرجال وناهضت الأكفاء لم تقل بعد
فراغك وانقطاع كلامك: لو كنت قلت كذا كان أجود، ولو تركت قول كذا لكان أحسن؛
وأمضيت الأمور على حقائقها، وسلمت إليها أقساطها على مقادير حقوقها؛ فلم تندم بعد
قول، ولم تأسف بعد سكوت. وأنا إن تكلمت ندمت، وإن جاريت أبدعت ورأيي كله دبري.
وأنت تعد في الشطرنج زبرب، وأنا في الشطرنج لا أحد.
وما
أعرف هاهنا اجتماعا على مشاكلة إلا في الإيثار بخبر الخشكار على الحواري، والباقلي
على الجوزينج، وأنا جميعا ندعي الهندسة. )) ([13]).
والجاحظ
في هذه الرسالة يذكر أن من أسباب العداوات تنافس الجيران والقرابات وتحاسد الأشكال
في الصناعات ، ثم يذكر انه لم يعجب من دوام الظلم والثبات عليه والدور متجاوزر
بالعسكر ( سامراء ) والمنازل متقابلة بمدينة السلام ( بغداد ) ولكن اشتد عجبه ببعد
المسافة بينهما في وقت إرساله للرسالة ، يقول الجاحظ : (( فمن أسباب العداوات
تنافس الجيران والقرابات ، وتحاسد الأشكال في الصناعات )) ([14])،
ويقول : (( ولم أعجب من دوام ظلمك، وثباتك على غضبك، وغلظ قلبك، ودورنا بالعسكر
متجاورة، ومنازلنا بمدينة السلام متقابلة، ونحن ننظر في علم واحد، ونرجع في النحلة
إلى مذهب واحد؛ ولكن اشتد عجبي منك اليوم وأنا بفرغانة وأنت بالأندلس، وأنا صاحب
كلام وأنت صاحب نتاج، وصناعتك جودة الخط وصناعتي جودة المحو، وأنت كاتب وأنا أمي،
وأنت خراجي وأنا عشري، وأنت زرعي وأنا نخلي. فلو كنت إذ كنت من بكر كنت من تميم،
كان ذلك إلى العداوة سببا، وإلى المنافسة سلما.)) ([15])
ونعتقد أن هذا النص قد يدل على ان الجاحظ كان في فترة كتابته ( عجبي منك اليوم )
بعيد عن مجاورة محمد بن عبد الملك الزيات ولعل الوزير ابن الزيات في سامراء حيث
عاصمة الخلافة العباسية والجاحظ في بغداد أو البصرة .
وكذلك
كشفت بعض الأعراض الصحية التي يعانية مثل الكبر : (( وما عليك مع كبر سني وضعف
ركني )) ([16])
، وقوله : (( وقلت : فإن ابتليت بطول عمره أقام فينا مشغول بنفسه وإن ذهب عن فقد
كفانا مؤونة الحيلة في أمره )) ([17])
، وقوله : (( ولو أن شيبتي التي بها استعطفك وكبرة سني التي بها استرحمتك اللتان
لم يحدثا علي إلا وأنا في ذراك ولم يخلا بي إلا وأنا في ظلك ، لكان في شفاعة
الكبرة ( .... ) وهل هرمت إلا في طاعتك ، وهل أخلقني إلا معاناة خدمتك )) ([18]).
وضعف النظر وذلك في قوله : ((ورأيت أن أنظر فيها
وأنا متسلق ولا أنظر فيها وأنا منتصب، استظهارا على تعب البدن؛ إذ كانت الأسافل
مثقلة بالأعالي، وإذ كان الانتصاب يسرع في إدخال الوهن على الأصلاب؛ ولأن ذلك أبقى
على نور البصر، وأصلح لقوة الناظر؛ إذ كل واحد من هذه المصاحف قد أعجز يدي بثقل جرمه،
وضيق صدري بجفاء حجمه. وإذا ثقل أنكأ الصدر، وأوهن العظم. )) ([19])
، وقوله ((وعلمت أن كل من ضعف بصره وكل نظره، فإنه أبدا أقرب مصباحا واعظم نارا.
وأن المحرور المحترق، والممرور الملتهب، والبائس المتهافت، إذا كان صاحب كتب ودرس،
أنه لا يجد بدا من الصبر على ما يحرقه ويعميه، أو الترك للقراءة فيها والتعرض لها.
فخيرتني بين العمي والجهل. وما فيهما حظ لمختار.)) ([20]).
ومعناته
من مشاكل في الكلى ومعاناته من الحصى : (( وقلت: إذا سخن بدنه سجن بوله، وإذا سجن
بوله جرح مثانته وأحرق كليته، وطبخ فضول غذائه، وجفف ما فضل عن استمرائه فأحاله
حصى قاتلا وصخرا جامدا، وهو دقيق القضيب ضيق الإحليل، فإذا حصاه يورثه الأسر، وفي
ذلك الأسر تلف النفس أو غاية التعذيب.
وقلت:
فإن ابتليت بطول عمره أقام فينا مشغولا بنفسه، وإن ذهب عنا فقد كفانا مؤونة الحيلة
في أمره.)) ([21]).
كما
تكشف العلاقة بينه وبين ابن الزيات فالجاحظ يذكر انه أغناه وأنه كان يشيد بذكره
وينوه باسمه : (( وكنت لا أدري ما كان وجه حبك لإعناتي، والتشييد بذكر تراثي،
والتنويه باسمي، ولا لم زهدتني في طلب الولد، ورغبتني في سيرة الرهبان.
فإذا
أنت لم ترفع ذكري في الأغنياء إلا لتعرض ذنبي للفقراء، ولم تكثر مالي إلا لتقوي
العلة في قتلي، فيالها مكيدة ما أبعد غورها، ويالها حفرة ما أبعد قعرها. لقد جمع
هذا التدبير لطافة الشخص ودقة المسلك، وبعد الغاية. )) ([22])
، ورغم ذلك فإن ابن الزيات يغضب على الجاحظ لتأليفه كتاب ( الزرع والنخل ) يقول :
(( جعلت فداك. ليس من أجل اختياري النخل على الزرع أقصيتني، ولا على ميل إلى
الصداقة دون إعطائي الخراج عاقبتني، ولا لبغضي دفع الإتاوة والرضا بالجزية حرمتني.
ولست
أدري لم كرهت قربي وهويت بعدي، واستثقلت روحي ونفسي واستطلت عمري وايام مقامي )) ([23])
، ويقول : (( وبعد متى صار اختيار النخل على الزرع يحقد الإخوان، ومتى صار تفضيل
الحب وتقريظ الثمر يورث الهجران، ومتى تميزوا هذا التميز وتهالكوا هذا التهالك؟
ومتى صار تقديم النخلة ملة، وتفضيل السنبلة نخلة؟ ومتى صار الحكم للنعجة نسبا
وللكرمة صهرا، ومتى تكون فيها ديانة وتستحكم فيها بصيرة، ويحدث عنها حمية. )) ([24])
، ويعجب الجاحظ من هذا الغضب غير المبرر ( فإن جهلت - اعزك الله - غضبك - فمثلي
جهل ما لا علة له ، وإن عجزت عن احتمال عقابك فمثلي ضج مما لا يطيق حمله )) ([25])
، والجاحظ ينتقد هذا الغضب وينتقد قطع العلاقة فجأة بينه وبين الزيات يقول : (( فلو
كنت إذ أردت ما أردت، وحاولت ما حاولت، رفعت قبل كل شيء المؤانسة، ثم أبيت
المؤاكلة، ثم قطعت البر، ثم أذنت مع العامة، ثم أعملت الحرمان، ثم صرحت بالجفوة،
ثم أمرت بالحجاب، ثم صرمت الحبل، ثم عاديت واقتصدت، ثم من بعد ذلك كله أسرفت
واعتديت، لكنت واحدا ممن يصبر أو يجزع، فلعلي كنت أعيش بالرفق، وأتبلغ بحشاشة
النفس، وأعلل نفسي بالطمع الكاذب. ولكن فجاءات الحوادث وبغتات البلاء لا يقوم لها
الحجر القاسي، ولا الجبل الراسي. فلم تدع غاية في صرف ما بين طبقات التعذيب إلا
أتيت عليها، ولا فضول ما بين قواصم الظهر إلا بلغتها. فقد مت الآن فمع من تعيش؟)) ([26]).
والجاحظ ينقل انتقادات ابن الزيات للجاحظ وبطريقة
غير مباشرة في جمعه لكتبه والفوضى التي كان يجمع بها هذه الكتب ، ، يقول : (( سمعتك
وأنت تريدني وكأنك تريد غيري، وكأنك تشير على من غير أن تنصني. وتقول: إني لأعجب
ممن ترك دفاتر علمه متفرقة مبثوثة، وكراريس درسه غير مجموعة ولا منظومة، كيف
يعرضها للتجرم، وكيف لا يمنعها من التفرق. وعلى أن الدفاتر إذا انقطعت حزامته،
وانحل شداده، وتخرمت ربطه، ولم يكن دونه وقاية ولا جنة، تفرق ورقه؛ وإذا تفرق ورقه
اشتد جمعه، وعسر نظمه، وامتنع تأليفه، وربما ضاع أكثره. والدفتان أجمع وضم الجلود
إليها أصون، والحزم لها أصلح. وينبغي للأشكال أن تنظم وللأشباه أن تؤلف؛ فإن
التأليف يزيد الأجزاء الحسنة حسنا، والاجتماع يحدث للمتساوي في الضعف قوة. فإذا
فعلت ذلك صرت متى وجدت بعضها فقد وجدت كلها، ومتى رأيت أدناها فقد رأيت أقصاها؛
فإن نشطت لقراءة جميعها مضيت فيها.
وإذا
كانت منظومة، ومعروفة المواضع معلومة، لم تحتج إلى تقليب القماطر على كثرتها، ولا
تفتيش الصناديق مع تفاوت مواضعها، وخفت عليك مؤونتها وقلت فكرتك فيها، وصرفت تلك
العناية إلى بعض أمرك، وادخرت تلك القوة لنوائب غدك. )) ([27])،
ويروي الجاحظ بانه حاول أن يأخذ بهذه النصيحة فأخذ بقوله وصار إلى مشورته وجع
البعض لى البعض والشكل إلى الشكل وتقدم في استجادة الجلود وغرم وتمييز الصناع
وتخير الياعات وغرم المال ، وجعلها مصحفًا مصحفًا ، يقول : ((فلما أخذت بقولك،
وصرت إلى مشورتك وأكثرت حمد الله على إفادتك من العلم وحظ عنايتك من النقل، وجمعت
البعض إلى البعض، والشكل إلى الشكل، وتقدمت في استجادة الجلود، وفي تمييز الصناع،
وفي تخير البياعات، وغرمت المال، وشغلت البال، وجعلتها مصحفا مصحفا، وأجملتها صنفا
صنفا؛ ورأيت أني قد أحكمت شأني، وجمعت إلى أقطاري، ورأيت أن أنظر فيها وأنا متسلق
ولا أنظر فيها وأنا منتصب )) ([28])
.
وقد
انتقد ابن الزيات الجاحظ لاستعماله الورق الصيني في مؤلفاته : (( جعلت فداك، ما
هذا الاستقصاء وما هذا البلاء؟! وما هذا التتبع لغوامض المسألة، والتعرض لدقائق
المكروه؟! وما هذا التغلغل في كل شيء يخمل ذكرى؟! وما هذا الترقي إلى كل ما يحط من
قدري؟! وما عليك أن تكون كتبي كلها من الورق الصيني، ومن الكاغد الخرساني؟!
قل
لي: لم زينت النسخ في الجلود، ولم حثثتني على الأدم، وأنت تعلم أن الجلود جافية
الحجم، ثقيلة الوزن،)) ([29])
وينقل حوار بينه وبين الوزير محمد بن عبد الملك الزيات عن استعمال الجلود الذي
ينصح به ابن الزيات بينما يرى الجاحظ أن الورق الصيني هو الأفضل وينقل الجاحظ حجته
في ذلك كما ينقل حجة ابن الزيات في تفيل الجلود على الورق الصيني والكاغد ([30]).
ولا
يتوقف ابن الزيات في انتقاد كتب الجاحظ فقط على جمعه للكتب ونسخها في الورق الصيني
والكاغد بل ينتقده على تسمية أجزاء الكتاب بـ ( المصحف ) يقول : ((وقد كان في
الواجب أن يدع الناس اسم المصحف للشيء الذي جمع القرآن دون كل مجلد، وألا يرموا
جمع شيء من أبواب التعلم بين الدفتين، فيلحقوا بما جعله السلف للقرآن غير ذلك من
العلوم. )) ([31])
وقد ذكرن من قبل أننا نعتقد ان هذا النص احد أدلتنا على أن الجاحظ ألف هذه الرسالة
في فترة تأليفه لكتاب الحيوان.
ومما
يؤكد ذلك أن الجاحظ وفي هذه الرسالة ( الجد والهزل ) يتناول مسألة أقحمها في هذه
الرسالة ولا ندري ما سر إقحاهمها وهي ما ورد في الآية الكريمة {وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، وهذه المسألة نفسها ترد في كتاب الحيوان للجاحظ
في المجلد الخامس منه ، والجاحظ وفي كتاب الحيوان يقول : (( وما أشك أن عند
الوزراء في ذلك ما ليس عند الرعية من العلماء وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء ) و
يقول : (( فإن قلت : فقد علم الله عز وجل آدم الأسماء كلها ولا يجوز تعريف الأسماء
بغير المعاني وقلت : ولولا حاجة الناس إلى المعاني وإلى التعاون والترافد لما
احتاجوا إلى الأسماء وعلى أن المعاني تفضل عن الأسماء والحاجات تجوز مقادير السمات
وتفوت ذرع العلامات فمما لا اسم له خاص الخاص والخاصيات كلها ليست لها أسماء قائمة
.
وكذلك تراكيب الألوان والأراييح والطعوم
ونتائجها .
وجوابي في ذلك : أن الله عز وجل لم يخبرنا أنه
قد كان علم آدم كل شيء يعلمه تعالى كما لا يجوز أن يقدره على كل شيء يقدر عليه .
)) ([32]).
وقد
تناول الجاحظ هذه المسألة في كتاب الجد والهزل مما يجعلنا نعتقد أن هذه المسألة
كانت محل تجادل بين الجاحظ والوزير محمد بن عبد الملك الزيات في هذه الفترة من
تأليف الجاحظ للمجلد الخامس من كتاب الحيوان وتأليفه لرسالة الجد والهزل ، وبالتالي
فقد يشير إلا أن تأليف الجاحظ لهذه الرسالة كان في فترة تأليفه للجزء الخامس من
كتاب الحيوان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق