الجاحظ
ومويس بن عمران
أبو عمران مويس بن عمران أحد الشخصيات المهم في
حياة الجاحظ ويصحف البعض في اسمه فيذكر أن أسمه موسى بن عمران ، وهو عند ابن حزم
مؤنس بن عمران مرة ، ومرة يؤنس بن عمران ([1]) ، وهو عند الشهرستاني
موسى بن عمران في مواضع ومويس بن عمران في مواضع أخرى ([2])، وفي الخطط يونس بن عمرو
([3])، وهو ممن جمع بين
الإرجاء والقول بنفي القدر وقد ذكره المرتضى في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة
وكثير من أرائه في الانتصار لأبي الحسين الخياط والملل والنحل للشهرستاني ومن
المسائل أنه كان أنه يجوز أن يفوض الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أو العالم
أن يحكم بما شاء أو أن يفوض الله الحكم إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم وقد خالف
بذلك أهل السنة والأشاعرة وعموم المعتزلة ([4]).
وهو
أحد رجالات المعتزلة ومن أصحاب النظام ([5])، ذكر الشهرستاني أن محمد
بن شبيب وأبو شمر وموسى بن عمران ( مويس بن عمران ) من أصحاب النظام إلا أنهم
خالفوه في الوعيد وفي المنزلة بين المنزلتين ، وقالوا : صاحب الكبيرة لا يخرج من
الإيمان إلا بمجرد ارتكاب الكبيرة ([6])، وذكر الشهرستاني أنه
كان من القائلين بمقولة أبي ثوبان المرجئ الذين يزعمون أن الإيمان هو المعرفة
والإقرار بالله تعالى وبرسله وبكل ما يجوز في العقل أن يفعله وما جاز في العقل
تكره فليس من الإيمان وأخر العمل كله عن الإيمان([7])وقد نسبه أيضًا إلى
الخوارج ([8]).
وله
أخبار في الأغاني للأصفهاني وفي أخبار أبي نواس لابن منظور ، وكان الجاحظ يردد
اسمه كثيرًا في كتبه ، وقد كان من الشخصيات البارزة في البصرة في تلك الفترة ويظهر
أنه من أثرياء البصرة الذين كان لهم جاه ومنزلة وقيل أنه كان واسع العلم في الكلام
والفتيا وكان يقول بالإرجاء ، قال ابن المرتضي: ( ومن هذه الطبقة مويس بن عمران
الفقيه، ذكر ابو الحسين انه كان واسع العلم في الكلام والفتيا وكان يقول بالإرجاء
) ([9]).
ويذكر
الدارقطني أنه : ( أحد المتكلمين ، ذكره الجاحظ في أصول الفتيا ، وحكى عنه حكايات
يطول ذكرها ) ([10]) ، ويقول ابن ناصر الدين
الدمشقي : مويس، كفليس: مويس بن عمران المتكلم، حكى عنه الجاحظ.
قلت: ذكره المرزباني في (معجمه) ، وقال: قال
دعبل: له أشعار كثيرة، وضرب المأمون عنقه بسرخس لاتهامه إياه بقتل الفضل بن سهل،
وهو القائل([11]):
الناس من خادع ومختدع
|
|
وكلهم مانع لما احتازا
|
تعاملوا بالخداع بينهم
|
|
ما جوز الناس بينهم جازا
|
وكان مويس بن عمران هذا كان من المقربين من
البرامكة وهو الذي اقترح على جعفر البرمكي أن يهدي المأمون لقصر قد بناه جعفر
لنفسه فخوفه مويس من يثير ذلك الرشيد ونصح أن يهديه للمأمون .
يقول صاحب التذكرة الحمدونية : ( وقيل: لما
قارب جعفر بن يحيى الفراغ من بناء قصره هذا صار إليه ومعه أصحابه ، وفيهم مويس بن
عمران ، وكان عاقلا كاملا، فطاف به واستحسنه، وقال فيه من حضره من أصحابه في ذلك
وأكثر القول ومويس ساكت. فقال جعفر: ما لك لا تتكلم؟ قال له: في ما قال أصحابنا
كفاية، وتكرار القول ممّا لا يحتاج إليه. وكان جعفر زكنا، فعلم أن تحت قوله شيئا.
قال: وأنت فقل؛ فقال: هو ما قالوا. قال: أقسم لتقولن. قال: إن أبيت إلا أن أقول
فتعتزل، ففعل. فقال: تصبر على الصدق؟ قال: نعم قال: فأطيل أم أختصر؟ قال: بل
اختصر. قال: اسألك بالله إن خرجت من دارك هذه فمررت بدار لبعض أصحابك تشبهها أو
تقاربها فما أنت قائل؟
قال: قد فهمت فما الرأي؟ قال: هو رأي واحد، إن
أخّرته عن ساعتك هذه فات فلم تلحقه. قال: وما هو؟ قال: لا أشك أن أمير المؤمنين قد
طلبك، وسأل عن خبرك، وضجر بتخلّفك، فأطل اللبث وامض إليه من فورك، وادخل عليه
وعليك أثر الغبار، فإذا سألك عن خبرك فقل: صرت إلى الدار التي بنيتها للمأمون، ثم
أتبع ذلك من القول ما أنت أعلم به.
قال: وقد كان جعفر اتّخذ في هذا القصر ثلاثمائة
وستين مقصورة، وكتب إلى كل ناحية يعمل فيها الفرش بأمر أن يتّخذ لبنائه ما يحتاج
إليه من الفرش على ذرعه ومقاديره. وكان قد كثر القول في البناء والفرش. فأقام في
الدار ساعة ثم مضى من فوره، ودخل على الرشيد فسأله عن خبره، فقال: كنت في الدار
التي اتّخذتها للمأمون على دجلة، وتفقدت بعض ما احتجت إلى تفقّده منها. قال:
وللمأمون بنيتها؟ قال: نعم، لما شرّفتني أن جعلته
في حجري واستخدمتني له، وعرفت محلّه من قلبك، أردت أن أبني له بناء يشبه هذا
المحلّ، ومع هذا فإنني كتبت إلى النواحي بأن يتّخذ لجميع البناء فرش في النواحي
التي يستعمل فيها الفرش على مقاديرها، وبقي شيء لم يتهيّا اتّخاذه، فقدّرنا أن
نعوّل فيه على خزائن أمير المؤمنين إما عارية وإما هبة، قال: بل هبة. وزال بذلك
الشنع الواقع كلّه، وأمره بنزولها، وأبى أن يطلق للمأمون الانتقال إليها. ) ([12]).
والجاحظ ينقل عن موسى بن عمران قوله : ( لم أر أنطق من أيوب بن جعفر ويحيى بن خالد
) ([13]) ، وموسى هنا هو مويس ، و المبرد يورد شبيه لهذا النص ويذكر ان قائله
هو مويس بن عمران : ( وقال مويس بن عمران : ما رأيت رجلًا أبلغ من يحيى بن خالد
وأيوب بن جعفر ) ([14]) ، مما يدل على أنه
بالفعل هو نفسه مويس بن عمران وأن أطلق عليه موسى بن عمران حتى في كتب الجاحظ كما
نرى أيضأ في كتاب الحيوان ([15]).
وقد أورد ابن المعتز حكاية توضح مقدار الكرم
الذي يتصف به مويس بن عمران ، كما توضح أنه كان يسكن في باب بني تميم بالبصرة ،
يقول ابن المعتز : ( وقال الحسين بن الضحاك: كنت يوماً من أيام الشتاء بالمسجد
الجامع بالبصرة، إذ جاء أبو نواس وعليه جبة خز سرية جيدة جداً، وما كنت عهدت أنها
له، فقلت: يا أبا علي، من أين لك هذه؟ قال: وما عليك من حيث جاءت منه. فأفكرت في
أمره، فوقع لي أنه أخذها في تلك الساعة من مويس بن عمران، لأني كنت رأيته أقبل من
باب بني تميم، فقمت كأني أريد، وخرجت من المسجد، فإذا بمويس، قد لبس جبة أسرى
من تلك الجبة فقلت: كيف أصبحت يا أبا عمران قال بخير صبحك الله به. قلت: يا كريم
الإخاء للإخوان قال: أسمعك الله خيراً يا أخي. قلت:
إن لي حاجة فرأيك فيها
|
|
أنا فيها وأنت لي سيان
|
قال: هاتها على اسم الله. قلت:
جبة من جبابك الخز كيما
|
|
لا يراني الشتاء حيث يراني
|
فضم يده إلى صدره وقال: خذها على بركة الله،
فخلعتها عنه ولبستها، وجئت وأبو نواس مكانه بعد، فلما رآها على قال: من أين جاءتك
هذه الجبة؟ قلت: من حيث جاءت تلك. أعني ما عليه. ) ([16]) .
فأنت ترى في هذه الحكاية مقدار كرم هذه الشخصية
ودعمها للشعراء ومقدار التقدير والاحترام التي تلقها هذه الشخصية من معاصريه .
ورغم ذلك فقد أخطأ الأستاذ عبد السلام هارون في
ترجمته لمويس بن عمران فذكر أنه من بخلاء الناس وأحد من احتج للبخل ، يقول عبد
السلام هارون : ( مويس بن عمران ، كان من بخلاء الناس ، وأحد من احتج للبخل ، وهو
من معاصري الجاحظ ، " سئل عنه أبو شعيب القلال ، فزعم أنه لم ير قط أشح منه
على الطعام . قيل : وكيف . قال : يدلك على ذلك أنه يصنعه صنعة ، ويهيئة تهيئة من
لا يريد أن يمس .. وكيف يجترئ الضرس على إفساد ذلك الحسن ، ونقص ذلك النظم ، وعلى
تفريق ذلك التأليف .. فلو كان سخيًا لم يمنع منه بهذا السلاح ولم يجعل دونه الجنن ،
فحول إحسانه إساءة ، وبذله منعًا ، واستدعاءه إليه نهيًا " البخلاء . وفي
الأصل : " موسى بن عمران " وإنما هو " مويس " كما في ستة
مواضع من البخلاء ، وكما في القاموس . وكان مويس من المتكلمين ) ([17]) ، ومن النص لا يفهم
أبدًا أنه من البخلاء بل على العكس من ذلك والجاحظ يصفه بالكرم في كتاب البخلاء
كما سترى بعد قليل في حديثنا عن تناول الجاحظ لهذه الشخصية التي كان لها دور كبير
في حياة الجاحظ في الفترة البصرية.
وقد قتل مويس بن عمران البصري في سنة 202هـ وقد
قتله المأمون بعد أن اتهمه بقتل الوزير الفضل بن الحسن ، يقول الخطيب البغدادي في
روايه له : (حدثني أبو حسان الزيادي قال: سنة اثنتين ومائتين فيها قتل ذو
الرياستين الفضل بن سهل- يوم الخميس- لليلتين خلتا من شعبان ويكنى أبا العباس
بسرخس في حمام. اغتاله نفر، فدخلوا عليه فقتلوه، فقتل به أمير المؤمنين المأمون
عبد العزيز بن عمران الطائي، ومويس بن عمران البصري، وخلف بن عمر المصري، وعلي بن
أبي سعيد، وسراجا الخادم. ) ([18]) ، والطبري يسمي هذه
الشخصيات : يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وموسى وعلي بن أبي سعيد- وهو ابن
أخت الفضل- وخلف المصري ، فهو يسمي مويسبموسى ، ويذكر أنهم من عسكر المأمون([19]).
ومويس من الشخصيات التي أثرت في حياة الجاحظ
وخاصة في المرحلة الأولى من حياته بالبصرة ، وقد سبق أن ذكرنا من قبل مساعدة مويس
بن عمران عندما سخرت والدته منه ومن أقباله على الدرس ، فأعطاه مويس بن عمران
خمسين دينارًا ( وهو مبلغ كبير مع رخص
أسعار البصرة ) كان ذلك معينًا للجاحظ في حياته وأسرته في تلك الفترة ، وكان ذلك
المبلغ إرهاصة لما سيناله الجاحظ في ما بعد من تأليفه الكتب والتي كنت سببًا في
غناه فيما بعد ، أو كما قال شوقي ضيف : ( وكأن مويس بن عمران كان رمزا مبكرا لما
سيصيبه من أموال وعطايا من الخلفاء والوزراء. ) ([20]).
وقد ذكرنا من قبل وصف الجاحظ له بأنه هو والكذب
لا يأخذان في طريق وأنه لم يكن عليه في الصدق مؤونه لإيثاره له حتى كان يستوي عنده
ما يضر وما لا يضر ([21]) ، ويلمح الجاحظ لتناظر
الناس على بابه ويروي حادثة جرت بين كوفي وبصري تنازعا في العنب النيروزي والرازقي
([22]) ، وقد روى الجاحظ أنه
سمع مفاخرة مويس بن عمران لأبي عبيد الله بن سلمان في أيهما كان أسبق إلى ركوب
البراذين ([23]) ، وينقل الجاحظ طلب محمد
بن يسير في شعره من مويس بن عمران بغلة لرحله ([24]).
والجاحظ ينقل اسمه في مقدمة رسالة أبي العاص بن
عبد الوهاب ويتضح من نصها أن مويس كان من الأجواد ([25]) ، وينقل الجاحظ عنه
رواية عن بخل الخرسانية ([26]) ، ورغم ذلك ينقل الجاحظ
نقد أبو شعيب القلال وذمه لمويس رغم إحسانه له وإكرامه بالمؤاكلة ([27]) .
وقد وصفه الجاحظ في كتاب الحيوان فقال : (
وحدثني مويس بن عمران وكان هو والكذب لا يأخذان في طريق ولم يكن عليه في الصدق
مؤونة لإيثاره له حتى كان يستوي عنده ما يضر وما لا يضر ) ([28]) ، والجاحظ لم يتحدث قط
عن ما حدث من قتل المأمون لمويس بن عمران غير أن هذه الكلمة قد تكون إشارة لإقدام
مويس وأصحابه في تنبيه المأمون لمخاطر سيطرة الفضل بن سهل على الحكم .
ولا نعلم الكثير عن بداية اتصال الجاحظ بمويس
بن عمران ، هل كان سبب هذا الاتصال أن مويس له علاقة بأسرة الجاحظ ، أم أن معرفة
مويس بن عمران بالجاحظ بدأت عندما أصبح الجاحظ غلامًا لإبراهيم بن سيار النظام ،
ومن الحكاية التي أوردناها من قبل عن مساعدة مويس للجاحظ تدل الحكاية على أن علاقة
مويس بالجاحظ كانت في فترة مبكرة من حياة الجاحظ ، ونرجح أن تكون معرفة مويس بن
عمران سابقة لمعرفة بالنظام ، ولا نستبعد أبدًا أن يكون لمويس بن عمران دور في أن
يتخذ النظام الجاحظ غلامًا له من أجل دعمه في هذه الفترة ، غير أننا لا يمكن أن
نقطع بهذا الأمر لأن المراجع التي لدينا لا توضح ذلك ، بل في اعتقادي انها لم
تتناول هذا الأمر قط وعلى العموم وكما ذكرنا سابقًا فقد ذكرت المصادر أن مويس كان
صاحب النظام وبالتالي فإن اتصال الجاحظ بمويس كان سببًا في اتصاله بالنظام أو العكس
صحيح.
ومويس له علاقة بعدد لا بأس به من أصدقاء
الجاحظ ، وربما أن ارتباط الجاحظ بمويس كان سببًا في اتصاله بالكثير من هؤلاء
الأصدقاء بل وبالمعتزلة وبالكثير من أبناء عصره ، فقد ذكر الجاحظ أن كاتبه عبد
الله بن كاسب وهو أحد أصدقاء الجاحظ([29]) ، والمكي ( صاحب النظام
) يتعشى عنده ([30])، وكان إسماعيل بن غزوان
يتعشق جارية له([31])، وقد أهداه أبو هذيل
العلاف دجاجة فتقبلها مويس بكرمه وحسن خلقه وأظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها ،
فجعلها أبو الهذيل مضربًا للأمثال ([32]).
ويذكر أبو حيان التوحيدي أن مويس كان يدعو
الجاحظ للطعام ويعتذر الجاحظ من الإجهاد والتعب ، يقول أبو حيان التوحيدي : (كتب
مويس بن عمران إلى الجاحظ يدعوه : عندي قدران طبختهما بيدي يحكيان المسك الأذفر،
فإن رأيت أن تصير إلي متفضلاً فعلت. فكتب إليه الجاحظ: مجلسك المجلس الذي يمنع
المصر من التوبة، وينقض عزمه الأواه الحليم، وأنا علة من قرني إلى قدمي من حملي
على نفسي ما ليس من عادتها، فهب لي نفسي هذا الأسبوع ثم أنا بين يديك تقتادني حيث
شئت، فعلت إن شاء الله.) ([33]).
وهذا النص يوضح مقدار ما كان يعنيه الجاحظ في
هذه الفترة من حياته مما يشغله حتى عن ملاقاة الأصحاب والخلان ، مما قد يشير إلا
أنه وحتى تلك الفترة من حياة الجاحظ لا زال الجاحظ يعاني الكثير من المشاكل في
حياته المعيشية ولربما كان ذلك أحد الأسباب التي أعاقت الجاحظ عن تأليف الكتب أو
على الأقل اشتهار ذكره بتأليف الكتب .
وقد بعث الجاحظ برسالة أخرى لمويس وقد أوردها
أبن حمدون وهي رسالة يعتب فيها الجاحظ على غضب مويس بن عمران ([34])، والرسالة قريبة الشبه
لرسالة الجاحظ في ( الجد والهزل ) والتي بعثها الجاحظ للوزير محمد بن عبد الملك
الزيات ، وإن صحت رواية ابن حمدون بأن الجاحظ قد بعث بتلك الرسالة لمويس بن عمران
فتعد هذه الرسالة من أوائل الرسائل التي كتبها الجاحظ ووصلت إلينا.
وتظهر الرسالة أيضًا كيف أن الجاحظ لا يمانع من
أن يعيد صياغة بعض رسائله ويزيد فيها ، ويرسلها إلى أخرين أو يضمها لمؤلفاته وحتى
لو مضى على كتابة الرسالة 30 سنة ، وسوف نرى مثل هذا في أمثلة كثيرة مثل رسالة سهل
بن هارون والتي ترد في البخلاء والتي نعتقد أنها من تأليف الجاحظ وقد وضعها الجاحظ
في فترة حياته في البصرة وقد احتفظ بها حتى تأليف كتاب ( البخلاء ) ، ومثل ذلك
رسالة أبي العاص بن عبد الوهاب الثقفي ورد ابن التوأم عليه فالأسلوب أسلوب الجاحظ
لا جدال .
وأكثر
ما يثيرني في نص الرسالة التي يذكرها ابن حمدون قول الجاحظ : ( لقد أردت أن أفديك
بنفسي في بعض كتبي، وكنت عند نفسي في عداد الموتى وفي حيّز الهلكى . ) وهذا النص
ينطبق على ابن الزيات أكثر مما ينطبق على مويس بن عمران إلا إذا اعتبرنا أن الجاحظ
وفي تلك الفترة كان لسان مويس بن عمران والمدافع عنه ، وإن صح أن الجاحظ قد أرسل
رسالته هذه لمويس بن عمران وكان نصها على نحو ما ذكره ابن حمدون في كتابه فهو دليل
قاطع على أن الجاحظ قد بدأ في تأليف الكتب
والرسائل قبل سنة 202هـ وهي سنة وفاة مويس بن عمران.
ورغم أن رسالة الجاحظ لمويس فيها الكثير من
العتب إلا ان العلاقة بين الجاحظ ومويس لم تنقطع أبدًا ، فقد ارتبط الجاحظ بمويس
وحتى قبل أن يقتل على يد المأمون بسنتين تقريبًا فنرى الجاحظ مرافقَا لمويس بن
عمران في سنة 200هـ في النهروان يقول الجاحظ : ( سمعت أبا شعبة الأعمى المعبر،
ونحن بالنهروان، سنة قدم الحسن بن سهل، وهو يقول لمويس بن عمران: اذكر لإخوانك
هؤلاء رؤياك، وتعبيري لها. قال: نعم، قلت لك: رأيت فيما يرى النائم كأني على بغل
بريد، فقلت لي: تحم يومين وثلثي يوم، فكان كما قلت؛ فسألتك عن العلة، فقلت: لأن
تشريف ذنب البغلة تشريفتان وثلثا تشريفة . ) ([35]).
وقتل مويس بن عمران على يد المأمون في سنة
202هـ بعد أن اتهمه وأصحابه ممن حذر المأمون من الفضل وسيطرته على الدولة ، بقتل
الوزير الفضل بن سهل ، وسيتكرر هذا المصير الذي تعرض له مويس بن عمران فيما بعد
بكل الشخصيات المهمة التي ارتبط الجاحظ بها في بقية حياته.
فقد ارتبط الجاحظ بشخصيات بارزوة في البصرة
وبغداد وفي الدولة العباسية ، وكان يستمد من هؤلاء العون والمعونة ، وطلب الحماية
في أحيانًا أخر ، ورغم ذلك فإن مصير تلك الشخصيات كان مفجعًا في النهاية ، ونلاحظ
ذلك في ما جرى للوزير محمد بن عبد الملك الزيات والقاضي أحمد بن أبي دؤاد والوزير
الفتح بن خاقان ، فكان مصير الوزير ابن
الزيات الاعتقال والموت تحت التعذيب ( ت 233هـ )، وكذلك الحال مع عدوه ابن أبي
دؤاد فقد مات مفلوجًا مغضوبًا عليه منبوذًا من الخليفة المتوكل وقد مات في النهاية
حزنًا على ابنه محمد بن أحمد بن أبي دؤاد و( 240هـ ) ، وكان مصير الفتح بن خاقان
القتل مع الخليفة المتوكل ( ت 447هـ ) ، وهكذا فقد حاول الجاحظ أن يستمد الحماية
من هؤلاء الشخصيات وفي النهاية لم يملكوا حتى أن يحموا أنفسهم من المصير المفجع في
نهاية حياتهم وبقى الجاحظ لم يلق هذا المصير ربما لعلمه وفضله وتأليفه للكتب ،
وبقى حتى وفاته حتف أنفه كما يقولون أو بسقوط الكتب كما يزعمون والتي لطالما حمته
من المصير الذي لاقاه من ناشدهم الحماية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق