السبت، 17 أغسطس 2019

أبو العيناء ( من أصدقاء الجاحظ )


أبو العيناء


هو أبو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر الهاشمي بالولاء المعروف بـ ( أبو العيناء ) شاعر وأديب وأخباري فصيح بليغ من ظرفاء العالم وآية في الذكاء واللسن وسرعة الجواب ، وله الكثير من النوادر والطرائف ، وكان ومن أسرع الناس جوابًا وكان خبيث اللسان في سب الناس والتعريض بهم ، كف بصره بعد بلوغه أربعين سنة من عمره ، وكان أصل أجداده من اليمامة ، ومولده بالأهواز سنة 191هـ ومنشأه ووفاته بالبصرة ،روى عن ابن عاصم النبيل وسمع من الأصمعي وأبي عبيدة وزيد الأنصاري والعتبي وغيرهم وحدث عنه الصولي وابن نجيح وأحمد بن كامل وآخرون .
 اتصل بأحمد بن أبي دؤاد لقصة تروى في كتب الأدب ونادم المتوكل [وتروي بعض المصادر أن للجاحظ دور في اتصاله بالخليفة المتوكل ]ويظهر أن منادمته للمتوكل استمر حتى مقتل المتوكل فهناك رواية تذكر أنه دخل على المتوكل في سنة 246هـ أي قبل مقتل المتوكل بسنة ، وقد نقل ياقوت الكثير من أخباره مع المتوكل ومنها قال : لولا أنه ضرير لنادمته فنقل له ذلك فقال : إن أعفاني من رؤية الاهلة فإني أصلح للمنادمة ، وقد أخبره المتوكل أنه بلغه أنه رافضي فقال : يا أمير المؤمنين كيف أكون رافضيا وبلدي البصرة ومنشئ مسجد جامعها وأستاذي الأصمعي وجيراني باهلة .. الخ .
وقد ارتبط في بدايه عده بأحمد بن أبي دؤاد ومدحه في شعره ، ثم ارتبط ببعض الوزراء مثل الوزير أبو صقر إسماعيل بن بلبل ( ت 278هـ ) وزير الموفق في خلافة المعتمد ،فكان في جملة أتباع الوزير أبو صقر ،ولذلك فقد كان معادي لابن ثوابة ، كما ارتبط بالوزير صاعد بن مخلد ( ت 276هـ ) وزير الموفق ،  كما ارتبط بالوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب ( 288هـ ) وزير المعتضد ،وله بعض المواقف مع الشخصيات المهمة مثل ابن المدبر (إبراهيم بن المدبر ) الذي أخر عطاءه ، وموسى بن عبد الملك الذي تهدده ، كما وضع كتابًا في أحمد بن الخصيب يذمه ، وله بعض الطرئف مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ، وروى له ياقوت الكثير من طرائفهومنها طرائف ونوادر مع محمد بن مكرم .
وكانت وفاته في سنة 283هـ وقيل في سنة 282هـ ، ويروون في وفاته حادث جرت فيذكرون أنه انحدر من مدينة السلام الى البصرة في زورق فيه ثمانون نفساً في هذه السنة فغرق الزورق، ولم يتخلص مما كان فيه إلا أبو العيناء وكان ضريراً، تعلق بأطراف الزورق فأخرج حياً، وتلف كل من كان معه، فبعد أن سلم ودخل البصرة مات ([1]). 
وقد كان أعمى ، ورغم ذلك فهم يزعمون أنه لقب بأبي العيناء لأنه قال لأبي زيد الأنصاري : كيف تصغر عينا ، فقال : عيينا يا أبا العيناء ، فبقى عليه([2])، وينقل الخطيب البغدادي هذه الرواية عن أبي الحسين محمد بن سليمان الجوهري البصري المعروف بجوذان في رواية عن أبي العيناء وأنها جرت في سنة 180هـ ([3])، بينما يذكر الجاحظ أنه ( إذا عظمت عين الإنسان لقبه أبا عيينه وأبا عيناء مثل حبناء وعيناء ، وإما أبو العيناء ) ([4]) فالجاحظ هنا يؤكد أن أبو العيناء لقب يعرف لمن عظمت عينه ، ولو لم يورد الخطيب البغدادي روايته عن بجوذاب لرجحت تسمية أبو العيناء بما يذكره الجاحظ.
ووهم يزعمون بان سبب العمى الذي أصابه أن جده أبو العيناء الأكبر أساء المخاطبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فدعا عليه بالعمى له ولولده من بعده فكل من عمى من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم ، بينما يذكر المبرد أن العمى أصاب أبو العيناء بعد أن نيف على الأربعين وخرج من البصرة ودلل على ذلك بقول أبو علي البصير وهو من أصحاب أبو العيناء :
قد كنت خفت يد الزمان = عليك إذ ذهب البصر
ولم أدر أنك بالعمى = تغنى ويفتقر البشر([5])
في حين ياذكر ياقوت رواية أخرى يرويها محمد بن خلف المرزبان أنه كان في البداية أحول ثم أصابه العمى ([6]).
وقد عاش أبو العيناء في البصرة إلا أنه تحول من البصرة لحكاية طريفة يذكرها ياقوت وغيره ، وجرت لإبي العيناء مع غلام اشتراه وقد أخذ جزء من ماله ، ثم كشف لزوجته ( ابنة عمه ) أنه تزوج من امرأة أخرى عليها فمنعته من دخول الدار حتى طلق الاخرى ، وسمت الغلام بالغلام الناصح ، فأعتقه أبو العيناء وجهزه للحج وأعطاه المال ليتخل منه ، وخفي عشرين يومًا ثم عاد بعد أن ادعى أن الطريق قطع عليه ، ثم جهزه للغزو فلما غاب باع أبو العيناء ماله وخرج منها خوفًا أن يرجع ([7]).
وتروي بعض المصادر أن أبا العيناء كان ممن يعاشرون المأمون وذلك في رواية تتحدث عن تحليل المأمون للمتعة وأن المأمون كاد أن يهم بذلك لولا أن القاضي يحيى بن أكثم أقنع المأمون بتحريمها ([8])، ويروي هذه الرواية محمد بن منصور ويذكر أنها جرت وكانوا ( هو وأبو العيناء ويحيى بن أكثم ) مع المأمون في طريق الشام([9]) ، مما قد يدل على أنها قد جرت في نهاية خلافة المأمون . ورغم ذلك أجد أن في هذه الرواية الكثير من المطاعن التي قد تؤكد عدم صحتها ومن ذلك تعرض المأمون لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ومنها أن أبو العيناء وعند وفاة المأمون لم يبلغ السابعة والعشرين من عمره وقد سبق أن ذكرنا أن أبا العيناء لم يخرج من البصرة إلا بعد الأربعين من عمره ، كما نعتقد أن أبا العيناء لم يشتهر إلا في أواخر خلافة المعتصم أو في خلافة الواثق وكان أول اتصاله بأحمد بن أبي دؤاد .
ومهما يكن الأمر ، فتزعم بعض بعض المصادر أن أبو العيناء اتصل بالمعتصم ففي رواية أنه سمع من المعتصم قوله: ( إذا نصر الهوى بطل الرأي )([10]).
 وفي رواية أخرى ومن مصدر متأخر تزعم أن المعتصم أنشد أبو العيناء عقب ذكر جرى في بغداد :
سقاني بعينيه كأس الهوى = فظلت وبي منه متل اللمم
بعينى مهاة شقيقية = وأشنب عذب وفرع أجم
وتذكر الرواية أن أبو العيناء قال : فتوهمت أنه يعني سر من رأى ويكني عنها بذلك ، فقلت : يا أمير المؤمنين قال مروان في جدك :
قريش الأبلج ذو البهاء ...
غيث العفاة غرر الأنواء ...
هم زمام الدولة الزهراء ...
فقال المعتصم : قل يا أبا عبد الله في مدح بني هاشم لك أو لغيرك فقد أصبت مقالًا ، وتزعم هذه الرواية العجيبه أن أبو العيناء انشد لمروان بن أبي حفصة بعض الأبيات ، فكافأة المعتصم بعشر بدر وفرس ومملوك وخمسون ثوبًا ، فانصرف أبو العيناء والناس يسألونه عن ذلك ([11]) ، وأنا أكاد أجزم أن هذه الرواية من وضع الرواة فهي لا تتوافق مع كان يجري ما بين الخلفاء وندمائهم في المخاطبة ( كتكنيته بأبي عبد الله ) ، مع ما في هذه الحكاية من حبكة قصصية واضحة ، ناهيك أن هذه الحكاية ترد في مصدر متأخر ، وهي تتعارض أيضًا مع ما نعرفه عن حياة أبو العيناء في تلك الفترة وتتعارض مع روايات نرجحها على هذه الرواية المتأخرة .
ومهما يكن الأمر فإنا انعتقد أن تلك الروايات التي تتحدث عن اتصال أبو العيناء بالمأمون أو المعتصم يغلب عليها الوضع فهي لا تتفق مع ما نعرفه عن حياة أبو العيناء ، وانا أرجح أن أبا العيناء وإن عرف بالأدب والرواية في عصر المعتصم ، إلا أنه لم يجالس المأمون ولا المعتصم وأكاد أظن أنه لم يلتق بالواثق على الرغم من ارتبطاه بالقاضي أحمد بن أبي دؤاد ، وفي اعتقادي أن أول اتصال  بينه وبين أحد الخلفاء كان في خلافة المتوكل حيت تورد بعض المصادر بعض أخباره وقصصه مع الخليفة المتوكل والذي كان يقرب المضحكين وكان من بينهم أبو العيناء.
وبما أننا قد ذكرنا أحمد بن أبي دؤاد فإننا نذكر هنا أن أبا العيناء قد اتصل بهذا القاضي وارتبط به ويقول فيه أبو العيناء وهو يصفه : ( ما رأيت أفصح لساناً ولا أصوب رأياً ولا أحضر حجة منابن أبي دؤاد) ([12])، وقد أورد أبو العيناء الكثير من المعلومات المهمة عن حياة أحمد بن أبي دؤاد نقلها لنا وكيع في كتابه ( أخبار القضاة ) .
ويحكي أبو العيناء حكاية طريفة جرت له مع العامة ، وكان لأحمد بن أبي دؤاد دور في تخليصه من غضبهم وترصدهم لأذيته ، ولا أدري إن كانت هذه الحكاية هي السبب في اتصاله وتعارفه بأحمد بن أبي دؤاد أم أن دفاع أحمد بن أبي دؤاد عن أبي العيناء لمعرفة سابقة بينهما . وإليك الحكاية كما يذكرها الخطيب البغدادي ، يقول : ( أخبرني الحسين بن علي الصّيمريّ حدّثنا محمّد بن عمران بن موسى الكاتب حدّثني علي بن محمّد الورّاق قال حدّثني علي بن سليمان الأخفش قال سمعت أبا العيناء يقول : كنت في أيام الواثق مقيما بالبصرة فكنت يوما في الورّاقين بها إذ رأيت مناديا مغفلا في يده مصحف مخلق الأداة ، فقلت له: ناد عليه بالبراءة مما فيه ـ وأنا أعني به أداته ـ فأقبل المنادي ينادي بذلك فاجتمع أهل السوق والمارة على المنادي وقالوا له : يا عدو الله تنادي على مصحف بالبراءة مما فيه؟ قال : وأوقعوا به، فقال لهم : ذلك الرجل القاعد أمرني بذلك قال فتركوا المنادي وأقبلوا إلى وتجمعوا علي ورفعوني إلى الوالي وعملوا علىّ محضرا وكتب في أمري إلى السلطان، فأمر بحملي فحملت مستوثقا مني، قال واتصل خبري بأبي عبد الله بن أبي دؤاد، فتكفل بأمري والفحص عما قرفت به، وأخذني إليه، ففك وثاقي، قال : وتجمعت العامة وبالغوا في التشنيع علي ومتابعة رفع القصص في أمري، فقلت لابن أبي دؤاد . قد كثر تجمع هؤلاء الهمج علي وهم كثير، فقال: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة 249]. فقلت: قد بالغوا في التشنيع علي، فقال: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر 43]. قلت: فإني على غاية الخوف من كيدهم، ولن يخرج أمري عن يدك فقال: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة 40]. فقلت: القاضي ـ أعزه الله ـ كما قال الصموت الكلابيّ:
لله درّك ـ أيّ جنّة خائف = ومتاع دنيا ـ أنت للحدثان
متخمّط يطأ الرّجال بنعله = وطء الفنيق دوارج القردان
ويكبّهم حتى كأنّ رءوسهم = مأمومة تنحطّ للغربان
ويفرج الباب الشّديد رتاجه = حتّى يصير كأنّه بابان
قال: يا غلام الدواة والقرطاس، اكتب هذه الأبيات عن أبي عبد الله. قال : فكُتبت له، ولم يزل يتلطف في أمري حتى خلصني .) ([13]).
وكان الجاحظ في تلك الفترة قد انحاز للوزير محمد بن عبد الملك الزيات وذلك في خلافة الواثق بينما كان أبو العيناء في جهة وصف القاضي أحمد بن أبي دؤاد ، ورغم ما بين ابن الزيات والقاضي أحمد إلا أن هذا لم يمنع من أن يلتقي الجاحظ بأبي العيناء في تلك الفترة ، يقول شوقي ضيف : ( وتتحول الخلافة إلى سامرّاء فى عهد المعتصم، ويتحوّل معها الجاحظ ، ويتخذ سامرّاء دار مقام له وتتوثق الصلة بينه وبين وزير المعتصم ابن الزيات الكاتب الشاعر المشهور ، وفيها يتعرّف على كثير من الأدباء ، وخاصة أصحاب الفكاهات والنوادر من أمثال أبى العيناء والجمّاز وغيرهما من المضحكين ندماء الخلفاء، وجعلته صلته بابن الزيات يقف فى صفه ضد خصمه أحمد بن أبى دؤاد قاضى القضاة) ([14]) .   
وقبل أن نخوض في العلاقة التي ربطت بين الجاحظ وبين أبو العيناء نذكر هنا ارتباط أبو العيناء بصداقة بإبراهيم بن رباح الكاتب ، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك من قبل في حديثنا عن الجاحظ وعلاقته بإبراهيم بن رباح الكاتب وذلك عند حديثنا عن حياة الجاحظ في خلافة الواثق ، وذكرنا من قبل أن الآبي يذكر أنه كان بين أبو العيناء إبراهيم بن رباح مودة وصداقة قديمة وأن الواثق لما نكب الكتاب في سنة 229هـ ( او في بداية خلافة الواثق كما تقول تلك الرواية ) أنشأ أبو العيناء كلاما حكاه عن بعض الأعراب وصف فيه رجالات الدولة في خلافة الواثق ، فلما وصل إلى الواثق وقرئ عليه ذلك المقال ، قال : واضع هذا الكلام ما أراد غير إبراهيم بن رباح ، وكان أحد أسباب الرضا عنه ([15]) ، وذكرنا أن المسعودي أورد هذه الحكاية على لسان أبي تمام ([16])، ويذكر صاحب الأغاني أن الوزير محمد بن عبد الملك الزيات هو من خطط لنكبة إبراهيم بن رباح الكاتب كما ذكرنا من قبل ، ومن الطريف أن أبا العيناء هو من روى حكايات الجاحظ مع إبراهيم بن رباح كما سترى في أخر هذه الترجمة لأبي العيناء .
وبالمثل فقد ذكر الجاحظ محمد بن القاسم ( أبو العيناء ) مرات عديدة وذلك في كتابه الحيوان الذي ألفه في خلافة الواثق ( وقبل سنة 233هـ ) ، فروى الجاحظ عنه خبر عن الأعمش الفقيه المعروف ( حدثني محمد بن القاسم قال : قال الأعمش لجليس له : أما تشتهي بناني ([17]) زرق العيون نقية البطون ... ) ([18]) .
 وذكره الجاحظ مرة أخرى في الحيوان في قوله : ( وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ : ما هو قال : الجزء الذي لا يتجزأ هو علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له أبو العيناء محمد :أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره قال : بلى حمزة جزء لا يتجزأ وجعفر جزء لا يتجزأ قال فما تقول في العباس قال : جزء لا يتجزأ قال : فما تقول في أبي بكر وعمر قال : أبو بكر يتجزأ وعمر يتجزأ قال : فما تقول في عثمان قال : يتجزأ مرتين والزبير يتجزأ مرتين قال : فأي شيء تقول في معاوية قال : لا يتجزأ ولا لا يتجزأ .
 فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الإمام جزءا لا يتجزأ إلى أي شيء ذهب فلم نقع عليه إلا أن يكون كان أبو لقمان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة وأن الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ ) ([19]) ، وهذا النص يوضح أن أبا العيناء قد كان له بعض الميول الكلامية ( وربما نحو المعتزلة ) وإن لم يشتهر به .
وينقل الجاحظ رواية يرويها أبو العيناء والجاحظ عن جرير الشاعر الأموي ، والجاحظ لا يرويها مباشرة عن أبي العيناء وإنما يرويها عنه بواسطة محمد بن سلام الجمحي ، يقول الجاحظ : ( ذكر محمد بن سلام عن محمد بن القاسم قال : قال جرير: أنا لا ابتدي ولكني اعتدي ) ([20]) ، ومحمد بن سلام هو محمد بن سلام الجمحي ( ت 232هـ ) كما يذكر عبد السلام محمد هارون . ويعيد هذه الرواية مرة أخرى ولكن دون أن يذكر الوسيط ( محمد بن سلام ) يقول الجاحظ ( محمد بن القاسم قال : قال جرير : أنا لا ابتدي ولكني اعتدي ) ([21])ونعتقد أن هذه الرواية التي يذكرها الجاحظ إنما رواها الجاحظ من كتب محمد بن سلام ولم يأخذها منه مباشرة ، وكذلك ينطبق ذلك على الرواية التالية والتي ينقلها الجاحظ عن أبي الحسن المدائني.
 ويروي الجاحظ عنه مرة أخرة وعلى شاكلة رواية الجمحي ، يقول الجاحظ ( أبو الحسن عن محمد بن القاسم الهاشمي : قال قال العباس بن عبد الملطلب لعبد الله ابنه : يا بني أنت أعلم مني وأنا أفقه منكإن هذا الرجل يدنيك يعني عمر بن الخطاب فاحفظ عني ثلاثا : لاتفش له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا يطلعن منك على كذبة . ) ([22])، وأبو الحسن عند عبد السلام محمد هارون وكما في فهارس الأعلام هو علي بن محمد المدائني ( ت 225هـ ) وإن صح أن أبا الحسن هذا هو المدائني فيدل ذلك على أن أبو العيناء كان يروى عنه قبل أن يبلغ الأربعين وفي خلافة المعتصم ، أي قبل اتصاله بأحمد بن أبي دؤاد .
وأبو العيناء من المعجبين بالجاحظ ولذلك فقد روى عنه الكثير من الروايات عن حياته ، وقد قيل لأبي العيناء : أي شيء يحسن الجاحظ ؟ قال : أي شيء لا يحسنهخ الجاحظ ([23]) .  
وكتب الادب تروي بعض الحوداث الطريفة التي جرت بين الجاحظ وأبي العيناء ومن تلك الروايات الرواية التي يذكرها عبد الرحمن بن محمد الكاتب ويذكر فيها ان الجاحظ كان ( يتقلد خلافة إبراهيم بن العباس الصولي على ديوان الرسائل فلما جاء إلى الديوان جاءه أبو العيناء فلما أراد الانصراف تقدم الجاحظ إلى حاجبيه إذا وصل إلى الدهليز إلا يدعه يخرج ولا يمكنه من الرجوع إليه فخرج أبو العيناء ففعل به ذلك فنادى بأعلى صوته : يا أبا عثمان قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك) ([24]) ، وقد تناولنا هذه الحكاية في حديثنا عن تعيين الجاحظ في ( ديوان الرسائل ) وخرجنا باستنتاجنا وهو أن الحكاية قد جرت في زمن الواثق وهذا ما نرجحه ، أو في خلافة المتوكل .
ومن تلك الروايات أيضًا تلك الرواية التي يذكرها أبو العيناء نفسه والتي يذكر أنها كانت سببًا في اتصاله بالمتوكل ، فقد طلب أحد أصدقاء أبو العيناء من أبي العيناء أن يتوسط له عند الجاحظ ليأخذ منه كتاب إلى أحد العمال ( المسئولين ) وكان هذا العامل من أصدقاء الجاحظ ، فذهب أبو العيناء إلى الجاحظ وأخبره بحاجة صديقه ، فوعده الجاحظ بذلك وان يبعث له بالكتاب في اليوم التالي ، و في اليوم التالي بعث الجاحظ بالكتاب إلى أبي العيناء فطلب أبو العيناء من ابنه أن يبعثه لصاحبه فحذره ابنه من الجاحظ ( إن أباعثمان بعيد الغور فينبغي أن نفضه وننظر ما فيه ) ، فلما فعل أبو العيناء وجد فيه ( هذا الكتاب مع من لا أعرفه وقد كلمني فيه من لا أوجب حقه فإن قضيت حاجته لم أحمدك وإن رددته لم أذممك ) فلما قرأ ابو العينا ذلك مضى إلى الجاحظ من فوره فاعتذر الجاحظ بأن هذه علامة بينه وبين الرجل ( العامل ) فيمن أعتنى به ، فقال أبو العيناء :( لا إله إلا الله ما رأيت أحدا بطبعك ولا ما جبلت عليه من هذا الرجل علمت أنه لما قرأ الكتاب قال أم الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف قحبة وأم من يسأله حاجة ، فقلت له ما هذا تشتم صديقنا فقال هذه علامتي في من أشكره فضحك الجاحظ وحدث الفتح بن خاقان وحدث الفتح المتوكل فذلك كان سبب اتصالي به وإحضاري إلى مجلسه ) ([25]) وفي رواية أخرى أن الجاحظ كتب لذلك العامل ( وصل كتابي سألني فيه أبو العيناء، وفد عرفت سفهه وبذاء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلا، فإن أحسنت إليه فلا تحسبه علي يدا، وإن لم تحسن لم أعتده عليك ذنبا والسلام ) ([26])، والحكاية جرت في زمن الموتكل ، ولا نعلم من هو العامل هذا الذي كان صديقًا للجاحظ.
ومن القصص التي يرويها بعض المحدثين ما يذكره إسماعيل بن الصفار عن أبي العيناء أنه قال : ( أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك فأدخلنا على الشيوخ ببغداد ، فقبلوه إلا ابن شيبه العلوي فإنه قال : لا يشبه آخر هذا الحديث أوله فلم يقبله ) ([27])، ونعتقد أن هذا من وضع خصوم الجاحظ ومما يدل على ذلك شارل بللا ينقل عن ابن حجر العسقلاني عدم معرفة بهذا الحديث ، فيقول شارل بللا : ( ومن المرجح أن هذا الحديث لم يلق رواجًا ، حتى أن العسقلاني يجهل المراد منه ، وهذا مما يؤسف له ، لان هذا الوضع إذا كان حدث فعلا ، وهذا ليس من اختراع خصوم الجاحظ ، فانه يتيح لنا ان نتعرف جيدا على موقفه من الشيعة وعلاقتهم بالخلافة اذ ليس هناك ما ينفي احتمال التأثير الحكومي في الموضوع ) ([28]) ، وإسماعيل الصفار أو إسماعيل بن الصفار أو أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار صاحب المبرد ثقة كان متعصبًا للسنة كما يذكرون في ترجمته ، توفي في محرم من سنة 341هـ أو 342هـ ([29])، ولا نعلم من هو ابن شيبة العلوي ولكن يورد محمد بن عبد الملك الهمذاني اسم أبو الحسين بن الشيبة العلوي في تاريخه في حوادث سنة 356هـ عند وفاة معز الدولة البويهي فهو لم يعاصر لا الجاحظ ولا أبو العيناء ([30]) وإن كان هذا يحتاج إلى بحث وتقصي أكثر توسعًا .
وقد روى أبو العيناء الكثير من الأخبار التي كشفت لنا بعض جوانب من حياة الجاحظ ، ومن تلك الروايات حكاية الجاحظ مع محمد بن عبد الملك الزيات ، يقول الخطيب البغدادي : ( أخبرني الصيمري، حدثني المرزباني، أخبرني محمد بن يحيى، حدثني أبو العيناء قال: كان الجاحظ يأكل مع محمد بن عبد الملك الزيات، فجاءوا بفالوذجة، فتولع محمد بالجاحظ وأمر أن يجعل من جهته مارق من الجام، فأسرع في الأكل فتنطف ما بين يديه فقال ابن الزيات: تقشعت سماؤك قبل سماء الناس! فقال له الجاحظ: لأن غيمها كان رقيقا. ) ([31]) .
وقد روى أبو العيناء مناوشة جرت بينه وبين الجماز ([32]) ، وقد ذكرناها من قبل في كتابنا هذا .
ومن الروايات التي يذكرها أبو العيناء عن الجاحظ تلك الرواية التي تتحدث عن اعتقال الجاحظ من قبل أحمد بن أبي دؤاد بعد اعتقال ابن الزيات ([33]) ، وقد ذكرناها من قبل في حديثنا عن حياة الجاحظ في خلافة المتوكل ، وكذلك الرواية التي تتحدث عن استدعاء الجاحظ من قبل المتوكل لتأديب ولده وقد روى الوشاء ( 325هـ ) هذه الحكاية عن أبي العيناء ([34]).
وحدث أبو العيناء أن الجاحظ قال : كان الأصمعي مانويا ، فقال له العباس بن رستم : لا والله ولكن تذكر حين جلست  إليه تسأله فجعل يأخذ نعله بيده وهي مخصوفة بحديد ويقول : نعم قناع القدري ، فعلمت أنه يعنيك فقمت ([35]) .
ومن الروايات التي يرويها أبو العيناء عن الجاحظ تلك الرواية التي ينقلها أبو العيناء عن إبراهيم بن رباح والتي يذكر فيها أنه أتاه عدة شعراء وكل واحد منهم يدعي أنه مدحه بعدة أبيات ( أربعة أبيات ) فيجزيهم عليها وهي :
بدا حين أثرى بإخوانه = فقلل عنهم شباة العدم
وذكره الدهر صرف الزمان = فبادر قبل انتقال النعم
فتى خصه الله بالمكرمات = فمازج منه الحيا بالكرم
ولا ينكت الأرض عند السؤال = ليقطع زواره عن نعم
 ويذكر ياقوت أنه يقال أن الجاحظ مدح بهذه الأبيات أحمد بن أبي دؤاد وإبراهيم بن رباح ومحمد بن الجهم ، وفي رواية أخرى ( وحدث إبراهيم بن رباح قال مدحني حمدان بن أبان اللاحقي وذكر مثل ما مضى وقال في آخره فقال إن مادحك أعزك الله يجد مقالا والجاحظ يملأ عينيه مني ولا يستحيي )([36]) ، ورواية ياقوت على هذا الشكل ، بينما رواية الخطيب البغدادي في حديثه عن هذه الأبيات أوضح ، وقد سجلناها من قبل في حديثنا عن حياة الجاحظ.
ويروي أبو العيناء قال أنشدني الجاحظ لنفسه في إبراهيم بن رباح :
وعهدي به والله يصلح أمره= رحيب الرأي منبلج الصدر
فلا جعل الله الولاية سبة = عليه فإني بالولاية ذو خبر
فقد جهدوه بالسؤال وقد أبى= به المجد إلا أن يلج ويستشري([37])
كما روى أبو العيناء بعض من شعر الجاحظ التي رواها عنه مثل هذه الأبيات :
يطيب العيش أن تلقى حليما =غذاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كل ريب= وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له شفاء = وداء البخل ليس له طبيب([38])
وروى الوشاء عن أبي العيناء قوله : أنشدني الجاحظ:
أخوك الذي إن سرّك الأمر سره، = وإن غبت يوماً ظلّ وهو حزين
يقرب من قربت من ذي مودة، = ويقصي الذي أقصيته، ويهين ([39])
وروى أبو العيناء من شعر الجاحظ :
زرت فتاة من بنى هلال = فاستعجلت إلى بالسّؤال
ما لي أراك قانئ السّبال = كأنّما كرعت فى جريال([40])


([1])انظر : الرزكلي ، الأعلام ، ج 6 ص 334 ، ط15 ، دار العلم للملايين . وانظر معجم الأدباء ، ج 1 ص 97وص 575 ، و ج 3 ص 376 . وج 5 ص 397- 407 ، دار الكتب العلمية .
([2]) وفيات الأعيان ، ج 4 ص 348 ، دار صادر وانظر : مروج الذهب ، ج4 ص 147 ، دار الهجرة .
([3])الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج 2 ص 391 ، دار الكتب العلمية.
([4])الجاحظ ، البرصان والعرجان والعميان والحولان ، ص 432 ، دار الجيل.
([5]) معجم الأدباء ، ج 5 ص 399 ، دار الكتب العلمية  .
([6]) معجم الأدباء ، ج 5 ص 399 ، 400 ، دار الكتب العلمية  .
([7]) معجم الأدباء ، ج 5 ص 407 ، دار الكتب العلمية  .
([8]) المختصر في أخبار البشر ، ج 2 ص 40 ، ط1 ، المطبعة الحسينية المصرية  .
([9]) مرآة الجنان وعبرة اليقظان ، ج 2 ص 102 ، دار الكتب العلمية .
([10]) تاريخ الخلفاء ، ص 246 ، مكتبة نزال مصطفى الباز ، ط1 ، 1425هـ - 2004 م.
([11]) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي ، ج 3 ص 455 ، ط1 ـ دار الكتب العلمية  .
([12])ابن خلكان ، ج 1 ص397 ، دار صادر ، بيروت.
([13]) الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج 2 ص 391 ، دار الكتب العلمية .
([14]) تاريخ الأدب العرب ، ج 4 ص ص 590 ، دار المعارف .
([15])الآبي ، نثر الدر في المحاضرات ، ج 3 ص 148 ، ط1 ، دار الكتب العلمية .
([16])مروج الذهب ، ج 3 ص 479 ، دار الهجرة .
([17]) نوع من السمك  .
([18]) الحيوان ، ج 3 ص 18 ، دار الجيل  .
([19]) الحيوان ، ج 3 ص 37 ، دار الجيل  .
([20]) الحيوان ، ج 3 ص 470 ، دار الجيل  .
([21]) الحيوان ، ج 5 ص 590 ، 591 ، دار الجيل  .
([22]) الحيوان ، ج 5 ص 189 ، دار الجيل  .
([23]) الممتنع في صنعة الشعر ، ص 251 ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، تحقيق محمد زغلول سلام  .
([24]) ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 4 ص 480 ، دار الكتب العلمية  .
([25]) ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 4 ص 479 ، 480 ، دار الكتب العلمية .
([26]) نثر الدر في المحاضرات ، ج 3 ص 136 ، ط1 ، دار الكتب العلمية.
([27]) تاريخ الاسلام ، ج 18 ص 374 ، ط2 ، دار الكتاب العربي.
([28]) شارل بللا ، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء ، ص 140  .
([29]) انظر : تاريخ بغداد ، ج 7 ص 301 ، ط1 ، دار الغرب . وانظر : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ، ج 3 ص 309 ، دار الكتب ، مصر   .
([30]) تكلمة تاريخ الطبري ، ج 11 ص 407 ، ط2 ، دار التراث.
([31]) الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج 12 ص 213 ، دار الكلتب العلمية  .
([32]) الثعالبي ، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب ، ص 582 ، ط1 ، دار المعارف .
([33]) ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 4 ص 476 ، دار الكتب العلمية  .
([34]) الوشاء ، الموشى ( الظرف والظرفاء ) ص 27 ، ط2 ، مكتبة الخانجي ، 1371هـ - 1953م  .
([35]) ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 4 ص 383 ، دار الكتب العلمية  .
([36]) ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 4 ص 478 ، دار الكتب العلمية  .
([37]) ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 4 ص 484 ، دار الكتب العلمية  .
([38]) ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، ج 4 ص 482 ، دار الكتب العلمية  .
([39]) الوشاء ، الموشى ( الظرف والظرفاء ) ص 27 ، ط2 ، مكتبة الخانجي ، 1371هـ - 1953م  .
([40]) أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد ، ج 1 ص 197 ، ط1 ، دار أحياء الكتب العربية ( عيسى البابي الحلبي وشركاه ، 1373هـ - 1954م .