الخميس، 2 سبتمبر 2021

حوار مع هبنقة

 

حوار مع هبنقة

غطت لحيته الطولية جزءًا كبيرا من وجه محاوري وصدره ، ورغم هذا فلم تغب عن ناظري تلك القلادة من الودع والعظام والخزف والتي وضعها على عنقه . كان محاوري هبنقة أبو نافع هو يزيد بن ثَرْوان ذو الودعات أحد بني قيس بن ثعلبة والذي ضرب به المثل بالحمق فقيل : ( أحمق من هبنقة ) .

أنا : أرحب بك معنا سيدي الكريم في حوارنا هذا والذي أرجو أن يكون خفيفًا عليك وعلينا وعلى القراء الكرام ، لنتعرف فيه على أخبارك وأخبار الحمقى خاصة وأنت زعيمهم وحامل لواءهم وكيف لا وقد ضرب بك المثل في الحمق حتى قيل : " أحمق من هبنقة " .

هبنقة : الشكر لك على هذا الاستضافة في هذا الحوار ، وأرجوا أن تكون الأسئلة خفيفة و سهلة علي .

أنا : حسنا أرجو ذلك .. وقبل أن نبدأ في حوارنا أريد الخوض في الحديث عن اسمك فقد اختلف الرواة في اسمك فقيل يزيد بن ثروان وقال البعض يزيد بن مروان ! أحببنا أن تخبرنا عن صحيح اسمك ؟!

هبنقة [ والتذمر بادي على وجهه ] : لست أدري ما صحيح اسمي ! وما أعلمه أنني من طائفة كان من أتباعها ما حدث به أبو العبنس  :  صحبني رجل في سفينة فقلت له‏:‏ ممن الرجل فقال ‏:‏ من أولاد الشام ممن كان جدي من أصدقاء المنصور علي بن أبي سالم شاعر الأنبار وكان من الذين بايعوا تحت الشجرة مع أبي سالم بن يسار في وقعة الفاروق أيام قتل الحجاج بن يونس بالنهروان على شاطىء الفرات مع أبي السرايا ، قال أبو العنبس ‏:‏ فلم أدر على أي شيء أحسده على معرفته بالأنساب أم على بصره بأيام الناس أم حفظه للسير‏.‏..  فكيف بالله أعرف صحيح أسمي وأنا من هؤلاء !!

أنا : ولكن هذا اسمك ولا يمكن أن تجهل اسمك ونسبك !؟

هبنقة : يا هذا لقد جعلت في عُنُقي قِلادة من وَدَع وعِظامٍ وخَزَف، وأنا كبير في السن ذو لحية طويلة، فسألني الناس عن ذلك ، فقلت لهم : لأعرف بها نفسي، ولئلا أضل ، فكان أن بت ذات ليلة وأخَذَ أخي قلادتَي فتقلَّدها، فلما أصبحت ورأيت القلادة في عنق أخي عجبت من الأمر وقلت : يا أخي أنت أنا فمن أنا  !! .

أنا [ ضاحكا] : حسنا .. حسنا ، نعذرك كل العذر فهذا الفعل ليس بغريب عن طائفتك فقد حدث مثل هذا لجحا ، وهو شبيه لفعل ريطة بنت عامر الحمقاء‏ :‏ كانت تعلم رأس أولادها بالقزع لتعرف أولادها من أولاد غيرها !

هبنقة [ مستدركاً ] : ورغم هذا فإن أردت رأيي فأنا أفضل أن أكون من بني مروان ..

أنا : ولما ؟!

هبنقة : لآن من بينهم الرجل الصالح أبو محمد ! فقد حدثنا معمر قال‏:‏ دخلت مسجد حمص فإذا أنا بقوم لهم رواد فظننت فيهم الخير فجلست إليهم فإذا هم ينتقصوا علي بن أبي طالب ويقعون فيه فقمت من عندهم فإذا شيخ يصلي ظننت فيه الخير فجلست إليه فلما أحس بي وسلم قلت‏ :‏ يا عبد الله ما ترى هؤلاء القوم ينتقصون علياً ويشتمونه وجعلت أحدثه بمناقبه وأنه زوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو الحسنين وابن عم الرسول فقال‏:‏ يا عبد الله ما لقي الناس من الناس ولو أن أحداً نجا من الناس لنجا منهم أبو محمد رحمه الله هو ذا يشتم وحده‏.‏ قلت‏:‏ ومن أبو محمد قال‏:‏ الحجاج بن يوسف‏.‏

أنا [ وكدت أن أموت من الضحك ] : حسنا دعنا من كل هذا ولنواصل أسئلتنا ، حسنا بديهة أحببنا أن نعلم ولو القليل عن مولدك ونشأتك ؟!

هبنقة : لا أدري لم أسئلتك صعبة ! وما يدريني أنا متى ولدت ! وكيف نشأت !؟ وهل كنت أعقل أنا ساعة مولدي ! حتى أعرف متى ولدت !؟ ثم هل يعقل الصبي كيف نشأ وماذا جرى له في صغره !!

أنا : عفوا .. عفوا .. ولكن قطعا لربما علمت من أهلك أو أي قريباً لك متى كان مولدك ؟! وقطعا تذكر ولو قليل عن نشأتك !!

هبنقة : أسمع لا أذكر شيئا من هذا ! لكن أن أردت فلربما ولدت في رأس الهلال للنصف من رمضان بعد العيد بثلاثة أيام وأحسب الآن أنت كيف شئت ..

أنا : لكن .. لكن هذا لا يتفق أبدا مع ...

هبنقة [ بغضب ] : أسمع ! هل كنت أنت معي حين مولدي ! أم لعله مولدك وليس مولدي ! أو لعله أنت أنا وأنا ليس بأنا ، مع أن قلادتي في عنقي !!

أنا [ وأنا أضحك ] : حسنا .. حسنا لا تغضب ، فلا يعنينا متى ولدت وكيف نشأت فالمصادر شحيحة في هذا الأمر و أنت لا تعلم أو قل لا تذكر عن هذا الآمر من شيء ، وإن كانت تذكر هذه المصادر أنك معاصر لعبيد الله بن زياد الذي جمعك بأحمق أخر اسمه شَرَنْبَثٍ.ويقال جرنبذ وهو منافس لك في الحمق حيث يقال أحمق من شرنبث !؟

هبنقة : أذكر هذا .. أذكر هذا .. ولي معه قصة فقد كاد أن يفقأ عيني بحجارته ! بل كاد أن يقتلني بسبب تحريض ابن زياد ! ولا أدري من سيدفع لي ديتي عند موتي !! [ وأخذ ينشد متوجعًا ] :

ذا ما طلبتَ الأرضَ ثم تباعَدَتْ = عليكَ فضعْ كورَ المطيةِ وانزلِ

وإِن كنتَ في دارٍ يُهينُكَ أهلُها = ولم تكُ مكبولاً بها فتحوَّلِ

وإِن كنتَ ذا مالٍ قليلٍ فلا تكنْ = لزوماً لقعرِ البيتِ ما لم تموَّلِ

كنت أتمنا والله أن يحدث لي مع ابن زياد مثل ما حدث للجصاص مع ابن الفرات فقد دخل ابن الجصاص يوماً على ابن الفرات الوزير الخاقاني وفي يده بطيخة كافور فأراد أن يعطيها الوزير ويبصق في دجلة فبصق في وجه الوزير ورمى البطيخة في دجلة فارتاع الوزير وانزعج ابن الجصاص وتحير وقال ‏:‏ والله العظيم لقد أخطأت وغلطت أردت أن أبصق في وجهك وأرمي البطيخة في دجلة‏.‏ فقال له الوزير‏:‏ كذلك فعلت يا جاهل‏.‏

ولكن حالنا مع ابن زياد أنا وشرنبث ليس كحال ابن الجصاص مع ابن الفرات بل كحال أحد السلاطين الذي دعا مجنونَينِ ليحرِّكَهما فيضحكَ ممّا يجيء منهما فلما أسمعاه وأسمعهما غضِب ودعا بالسيف فقال أحدُهُما لصاحبه‏:‏ كنَّا مجنونَين فصرنا ثلاثة !!

أنا ( وأنا بالكاد أكتم ضحكتي ) : حسنا .. حسنا .. فلنواصل الأسئلة ، لا نعرف الكثير عن حياتك العملية فلم يذكر عنك أنك دخلت الكتاب ...

فقاطعني هبنقة قائلا : وهل أنا مجنون حتى يعلمني معلم صبيان !!

أنا : ولما  !!

هبنقة : هل سمعت ما قاله الجاحظ ، قال : لقد مررت بمعلم و الصبيان يضربونه وينتفون لحيته فتقدمت لأخلصه فمنعني وقال‏:‏ دعهم بيني وبينهم شرط إن سبقتهم إلى الكتاب ضربتهم وإن سبقوني ضربوني واليوم غلبني النوم فتأخرت ولكن وحياتك إلا بكرت غداً من نصف الليل وتنظر فعلي بهم فالتفت إليه صبي وقال‏:‏ أنا أبات الليلة ها هنا حتى تجيء وأصفعك . فبالله عليك كيف تريدني أن أتعلم ومعلمينا هكذا ؟!

أنا : حسنا .. حسنا ، لم يكن رأي الجاحظ في المعلمين طيبا .. ورغم هذا كان عدم تعلمك سببا لكي تكون راعيا ترعى غنم وإبل أهلك !ويقال أنه كانت لك سياسة في الرعي ؟!

هبنقة : نعم فقد كنت أرعى أغنام وإبل أهلي وكنت أرعى السِّمَان في العشب وأنحي المهازيلَ الضعاف فقيل لي: ويحك! ما تَصْنَع؟ فقلت لهم : لا أفسد ما أصلحه اللّه ! ولا أصلح ما أفسده !

أنا : لذا لما خَلَع قتيبةُ بن مسلم ، الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بخراسان قام خطيباً فقال‏:‏ يا أهل خراسان أتدرون مَن ولِيُّكم !؟ إنّما وليكم يزيد بن ثروان ، شبه سليمان بك ، لإنك كنت تحسن من الإبل إلى السمان وتدع المهازيل وتقول ‏:‏

إنما أكرم من أكرم الله وأهين من أهان اللَّه ، وكذلك كان سليمانُ يعطي الأغنياء ولا يعطي الفقراء ويقول‏:‏ أُصلح ما أصلح اللَّه وأُفسد ما أفسَد الله .

هبنقة : لا شك أن سليمان قد احسن في الحكم ! وليس بغريب فقد أخذ بسنتي وحكمي !

أنا : لا أشك في هذا ! ومن أحكامك العجيبة تلك القصة التي تقول :

اختصمت الطفاوة وبنو راسب في رجل ادَّعاه هؤلاء وهؤلاء، فقالت الطفاوة : هذا من عرافتنا، وقالت بنو راسب: بل هو من عرافتنا، ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم ، فلما رأوك قالوا: إنا لله مَنْ طلع علينا ؟ فلما دنوت منهم قصوا عليك قصتهم، فقلت: الحكم عندي في ذلك أن يذهب به إلى نهر البصرة فيلقى فيه، فإن كان راسبيا رسب فيه، وإن كان طفاويا طَفَا، فقال الرجل: لا أريد أن أكون من أحد هذين الحيين، ولا حاجة لي بالديوان.

هبنقة : وهل أخطأت في الحكم !؟

أنا : لا .. وحتى لو أخطأت في الحكم فلم تبلغ ما بلغه أحد طائفتك وهو أحد ولاة الرشيد فقد حكم على شاة بالحد فقالوا إنها بهيمة‏.‏ فقال‏:‏ الحدود لا تعطل وإن عطلتها فبئس الوالي أنا‏.‏

فانتهى خبره إلى الرشيد فلما وقف بين يديه قال‏:‏ من أنت قال‏:‏ مولى لبني كلاب فضحك الرشيد وقال‏:‏ كيف بصرك بالحكم قال‏:‏ الناس والبهائم عندي واحد في الحق ولو وجب الحق على بهيمة وكانت أمي أو أختي لحددتها ولم تأخذني في الله لومة لائم‏ ، فأمر الرشيد أن لا يستعان به‏ !

هبنقة : نعم الرجل هو فقد أحسن ، وهذا لو كان في زمانكم لكان من أتباع المساوة المطلقة بين الخلق .

أنا : دعنا من هذا .. يقال أنك أضعت بعيراً فجعلت تنادي : من وجده فهو له فقيل لك‏:‏ فلم تنشده فقلت ‏:‏ فأين حلاوة الوجدان !

هبنقة : وماذا في هذا ! وهل أحلى من حلاوة الوجدان  !

أنا [ وأنا أضحك ] : حسنا لا اعتقد أنك أخطأت ! فلا أحلى من حلاوة الوجدان  !

لم يبقى من الآمر إلا أن أذكر ما ذكره ابن الجوزي في كتابه أخبار الحمقى والمغفلين عن قصص من أصحابك وطائفتك وأرجو أن تنال رضاك واستحسانك ..

******

مرض صديق لحامد بن العباس فأراد أن ينفذ ابنه إليه ليعوده فأوصاه وقال‏:‏ يا بني إذا دخلت فاجلس في أرفع المواضع وقل للمريض‏:‏ ما تشكو فإذا قال‏:‏ كذا وكذا فقل له‏:‏ سليم إن شاء الله وقل‏:‏ من يجيئك من الأطباء فإذا قال‏:‏ فلان فقل‏:‏ ميمون وقل‏:‏ ما غداؤك فإذا قال ‏:‏ كذا وكذا فقل‏:‏ طعام محمود‏ فذهب‏.‏

فدخل على العليل وكان بين يده منارة فجلس عليها لارتفاعها فوقعت على صدر العليل فأوجعته ثم قال للمريض‏:‏ ما تشكو فقال‏:‏ أشكو علة الموت فقال‏:‏ سليم إن شاء الله فمن يجيئك من الأطباء قال‏:‏ ملك الموت قال‏:‏ مبارك ميمون فما غداؤك قال‏:‏ سم الموت قال‏:‏ طعام طيب محمود‏.‏

*****

وقال أحد القصاصين وهو يعض ‏:‏ إذا كان يوم القيامة خرج من النار رأس عظيم من صفته كذا وكذا‏.‏

وكان رجل يستمع في المجلس وهو يميد من الخوف فقال له‏:‏ ما الذي بك ! أتنكر قدرة الله قال‏:‏ لا بل إني رجل مزين ( حلاق ) فلو كلفت حلق هذه الرأس كيف كنت أعمل .

*****

ورأى الجاحظ معلم و قد جاءه غلامان قد تعلق كل واحد منهما بالآخر فقال‏:‏ يا معلم هذا عض أذني فقال‏:‏ ما عضضتها وإنما عض نفسه فقال‏ المعلم :‏ يا ابن الخبيثة جمل حتى يعض أذن نفسه .

*****

‏وكان رجل كثير المخاصمة لامرأته وله جار يعاتبه على ذلك فلما كان في بعض الليالي خاصمها خصومة شديدة وضربها فاطلع عليه جاره فقال‏:‏ يا هذا اعمل معها كما قال الله تعالى‏:‏ إما إمساك إيش اسمه أو تسريح ما أدري إيش‏.‏

*****

وحدث عبد الرحمن بن مسهر قال ‏:‏ ولاني القاضي أبو يوسف القضاء بجبل‏.‏ وبلغني أن الرشيد منحدر إلى البصرة فسألت أهل جبل أن يثنوا علي فوعدوني أن يفعلوا ذلك وتفرقوا فلما آيسوني من أنفسهم سرحت لحيتي وخرجت فوقفت له فوافى وأبو يوسف في الحراقة فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبل قد عدل بينا وفعل وصنع وجعلت أثني على نفسي فرآني أبو يوسف فطأطأ رأسه وضحك فقال هرون‏:‏ مم تضحك فقال‏:‏ إن المثني على نفسه هو القاضي‏.‏

فضحك هرون حتى فحص رجليه وقال‏:‏ هذا شيخ سخيف سفلة فاعزله فعزلني

*****

وصلى بعض الأعراب خلف بعض الأئمة في الصف الأول وكان اسم الأعرابي مجرماً فقرأ الإمام‏:‏ والمرسلات‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ألم نهلك الأولين ‏"‏ فتأخر البدوي إلى الصف الآخر فقال‏:‏ ‏"‏ ثم نتبعهم الآخرين ‏"‏ فرجع إلى الصف الأوسط فقال‏:‏ ‏"‏ كذلك نفعل بالمجرمين ‏"‏ فولى هارباً وهو يقول‏:‏ ما أرى المطلوب غيري‏.

*****

وعن الحسين بن السميدع الأنطاكي قال‏:‏ كان عندنا بإنطاكية عامل من حلب وكان له كاتب أحمق فغرق في البحر شلنديتان من مراكب المسلمين التي يقصد بها العدو فكتب ذلك الكاتب عن صاحبه إلى العامل بحلب بخبرهما‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم إعلم أيها الأمير أعزه الله تعالى إن شلنديتين أعني مركبين قد صفقا من جانب البحر أي غرقا من شدة أمواجه فهلك من فيهما أي تلفوا قال‏:‏ فكتب إليه أمير حلب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ورد كتابك أي وصل وفهمناه أي قرأناه أدب كاتبك أي إصفعه واستبدل به أي اعزله فإنه مائق أي أحمق والسلام أي انقضى الكتاب‏.

وقد انقضى حوارنا هذا فشكرا هبنقة على سعة صدرك ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق